لمسات
بيانية في سورة الإنسان
قوله : ( هَلْ أَتَى
عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً {1} )
لو نظرنا في سياق
السورة نجد أن آيات السورة تذكر الإنسان قبل وجوده وتذكره وهو نطفة أمشاج وتذكره
فيما بعد كإنسان مكلّف وتذكره بعد خروجه من الدنيا إلى النعيم والمُلك الكبير أو
الأغلال والسعير، فالسورة كلها تذكّره في كل مراحل الإنسان فهي بحق سورة الإنسان
ولذا ناسب تسميتها سورة الإنسان.
والسورة تبدأ بقوله
تعالى (هل أتى) .إن المفسرين وأهل اللغة عموماً يقولون هل هنا معناها (قد) بمعنى
(قد أتى) لكن لا يُقصد بها الإخبار وإنما (قد) مسبوقة باستفهام بمعنى (أقد أتى)
فالإستفهام قائم والقصد منه التقرير وليس الإستفهام حقيقة. فالإستفهام حقيقة هو أن
يسأل الإنسان (هل أتى) لا أن يُخبر الإنسان (قد أتى) كما أننا لا نقول لشخص قد
أنعمت عليك لكن تقول هل أنعمت عليه ليأتي الجواب منه بنعم. فالله تعالى يسأل هل
أتى على الإنسان فيجيب الإنسان نعم فجواب السؤال لكل من يسأل هو نعم إذن من الذي
خلق الإنسان بعد أن كان عدماً؟ إذا كان أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً
مذكورا فمن الذي خلقه؟ فالجواب (إنا خلقنا الإنسان) أياً كان هذا الإنسان لم يكن
شيئاً مذكوراً.
الآن نسأل من المقصود
بهذا الإنسان الذي ذكره تعالى في مطلع السورة؟ هنا اختلف المفسرون فقسم قال أن
المقصود هو آدم u لم يكن شيئاً
مذكوراً عندما خلقه الله تعالى من الطين إلى قبل نفخ الروح فيه كان شيئاً ولم يكن
مذكورا، وقسم آخر يقول هو الإنسان بدليل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان من نطفة
أمشاج) يشمل ذرية آدم u وليس آدم لأن آدم
من تراب فكل واحد من البشر كان شيئاً في الرحم لكنه لم يكن مذكورا. لكن الذي يترجح
والله أعلم أن الإنسان في الآية يشمل آدم u ويشمل ذريته أي جنس الإنسان عموماً. ويأتي سؤال هنا في الحقيقة ما
المقصود بـ (لم يكن شيئاً مذكورا)؟ هل المقصود أنه لم يكن شيئاً أصلاً كقوله تعالى
في سورة مريم(ولقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) في خطابه لزكريا u أو قوله تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)
أو المقصود أنه خلقه أي كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا؟ فما دلالة كلمة (مذكورا)
هنا؟ وهل هي منفية أو مثبتة؟ مثل هذا التعبير في اللغة يحتمل معنيين وهذا من
باب التوسع في المعنى، فهو يحتمل نفي القيد أصلاً (لم يكن شيئاً) لا مذكوراً ولا
غيره كما في قوله تعالى (لا يسألون إلحافا( (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)
بمعنى أنهم لا يسألون لا ملحفين ولا غير ملحفين فيتعففون ولا يسألون الناس. وكذلك
يحتمل نفي القيد فقط بمعنى كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا كما في قوله تعالى (وما
خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) لم ينفي خلق السموات والأرض لكنه نفى
اللعب. وعليه فإن قوله تعالى (لم يكن شيئاً مذكورا) تحتمل أنه أتى على الإنسان حين
من الدهر لم يكن شيئاً أصلاً مذكوراً أو غير مذكور وتحتمل أن يكون شيئاً لكنه غير
مذكور.
يُبنى على هذا السؤال
سؤال آخر: إذا كان المُراد المعنى الأول (أي النفي أصلاً) أي العموم فلَمِ ذكر
كلمة مذكور ولم يقل كما جاء في سورة مريم (ولم تك شيئا) بدون ذكر كلمة مذكور؟ هناك
أكثر من سبب لذكر كلمة (مذكور) أولاً هي إشارة إلى تطور على جميع مراحل الإنسان
فقد خلق الإنسان من لا شيء وكان شيئاً ولم يكن مذكورا ثم نطفة أمشاج ولو لم يقل
مذكورا لأفاد أنه قفز فوق المرحلة الوسطى والسورة كما أسلفنا تتحدث عن تطور مراحل
الإنسان وجميع أطواره قبل وجوده ووجوده وهو غير مذكور ووجوده وهو مذكور والنطفة
وغيرها. إذن لماذا لم يستخدم كلمة مذكورا في سورة مريم؟ عدم ذكرها في سورة مريم هو
المناسب لأن الآية في السورة خطاب لزكريا u عندما دعا ربه ليهب له غلاماً فقال تعالى (إنا نبشرك بغلام اسمه
يحيى) فيتعجب زكريا (أنّى يكون لي غلام) فقال تعالى (ولقد خلقتك من قبل ولم تك
شيئا) بمعنى أن الله تعالى خلقه ولم يكن شيئاً أصلاً ولو قال شيئاً مذكورا لا تظهر
قدرة الله تعالى لأنها ستفيد أنه كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا. فالخلق من أبوين
أيسر عند الله من الخلق من العدم لكن الله تعالى يريد أن يُظهر أنه خلق زكريا ولم
يكن شيئاً مذكوراً أي خلقه من العدم وهذا أصعب من الخلق من أبوين وكله عند الله
تعالى سهل لكننا نتحدث من منطق البشر. والعموم يدلُ على القدرة الأكبر ولو قال في
آية سورة مريم (شيئاً مذكورا) لم تؤدي المعنى المطلوب في الآية. وهذا أدلُ على
القدرة، كذلك في قوله تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) لم
يأت بكلمة مذكورا هنا أيضاً لأن الخطاب في الآية للذين أنكروا البعث فهم يستبعدون
أن يعيدهم الله بعد موتهم فيخبرهم الله تعالى أن الإعادة أيسر من الإبتداء بالخلق
من عدم ونفي الشيء هو أبلغ من الذكر.
ومن الملاحظ أيضاً في
هذه الآية استخدام فعل أتى بدل فعل جاء والسبب أن القرآن يستعمل أتى فيما هو
أيسر أما جاء فيستعمل فيما هو أشقّ وأصعب. وهنا قال تعالى (هل أتى على الإنسان
) فالإنسان ليس فيه مشقة أو ثقل على إتيانه في مثل هذه الحالة استعمل أتى دون جاء.
وكذلك قدّم الجار
والمجرور (على الإنسان) على الفاعل (حين) والأصل أو يتقدم الفاعل على الجار
والمجرور لكن الكلام في الآية هو على الإنسان وليس على الدهر فالدهر يمر والكلام
في الإنسان فهو أهم من الدهر في السياق الذي وردت فيه الآية فاقتضى تأخير الفاعل
وتقديم الجار والمجرور.
ِ- قوله
( إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ){2}
بعد أن أثار تعالى
السؤال في الآية الأولى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا)
فإن السامع سيقول قطعاً نعم أتى عليه هذا الحين، فيُطرح سؤال آخر إذن: من خلق هذا
الإنسان وأوجده؟ فيجيب الله تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) والإجابة
جاءت بضمير التعظيم وبالتوكيد (إنّا) ضمير التعظيم مع التوكيد لأن هذا الأمر فيه
عظمة وجلال. وقد قدّم إسم إنّ على الجملة الفعلية التي هي خبر إن. ومن جملة معاني
التقديم هو القصر بمعنى نحن وحدنا خلقنا الإنسان على سبيل الحصر والقصر وقد أكد
تعالى ذلك بـ (إنّ) وذكر ذلك بضمير التعظيم إذن فهو الخالق حصراً ليس معه شريك
سبحانه.
وفي نفس الوقت قال
(نبتّله) بضمير التعظيم بدليل أن الخالق والمبتلي جهة واحدة وهو الله تعالى لأنه
أحياناً قد يكون الإبتلاء من إنسان على إنسان وهذا يدل على عظمة الأمر الذي يبتلي
به. ثم قال (فجعلناه) وهذا الفعل منسوب إلى الله تعالى أيضاً وهو سبحانه الذي
تفضّل على الإنسان بذلك فخلقه وأنشأه وهو الذي اختبره وذكر الوسائل التي يصحّ معها
الإختبار.
الإنسان: قال تعالى
(إنا خلقنا الإنسان) وهنا نسأل من هو الإنسان الذي ورد ذكره في الآية؟ في الآية
الأولى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) اختلف في مدلول
كلمة الإنسان أهو آدم u أم ذريته؟ أما في
هذه الآية فالمقصود قطعاً هم ذرية آدم لأنه تعالى ذكر أنه خلقه من نطفة أمشاج وهذا
لا يكون لآدم الذي خلقه من تراب. المرجّح في الآية الأولى أن المقصود بالإنسان
المذكور في الآية هو آدم u وفي الآية
الثانية ذرية آدم u فذكر الإنسان
الأول ومن بعده وهذا يدل على القدرة وعلى الإيجاد والإستمرار ولذلك لم يذكر الضمير
في الآية الثانية التي تدل على الإنسان فلم يقل مثلاً إنا خلقناه من نطفة
أمشاج باستعمال الضمير بل قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) وهذا يدل
على أن المقصود قطعاً ذرية آدم. وهذا كله يرجّح أن الإنسان في الآية الأولى يقصد
بها آدم u والإنسان في
الآية الثانية يقصد بها ذرية آدم u.
نطفة أمشاج: الأمشاج
لغة هي الأخلاط وكلمة أمشاج تستعمل مفرداً وجمعاً (مشيج ومشج والجمع أمشاج، مشيج
تجمع على أمشاج مثل شريف وأشراف، ومشج تجمع على أمشاج مثل بطل وأبطال ومشج ومزج متشابهتان
في المبنى والمعنى)، وفي اللغة العربية كلمات عديدة تستعمل مفرداً وجمعاً مثل كلمة
بشر وقد استعملت في القرآن الكريم للمفرد (أبشراً منا واحداً نتبعه) والجمع (ما
أنتم إلا بشر مثلنا) سورة يس، وكذلك كلمة الفلك استعملت في القرآن للمفرد (وآية
لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) سورة يس، وللجمع (حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة) سورة يونس، وكذلك كلمة طفل تستعمل للمفرد والجمع وقد يستعمل
جمعها أيضاً لأنها تجمع على أطفال (والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) و
(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم). والأمشاج هي الأخلاط وكما قلنا تستعمل للمفرد
والجمع ونسأل لماذا اختار الجمع على المفرد في هذه الآية؟ كان من الممكن القول
(نطفة مشيجة أو مشج) لكن اختيار الجمع لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات وهذا
موجود في اللغة فيقال : بلد سبسب (أي قفر) وبلد سباسب، يمكن القول بلد سباسب إذا
كثر فيه القفر كأن كل جزء من البلد هو سبسب والسبسب هي الأرض الواسعة الصحراء.
كذلك نقول أرض قفر وأرض قفار والجمع تعني أن كأن كل جزء من الأرض قفر على حدة،
ولهذا قال تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج من كثرة ما فيها من أخلاط.
نبتليه: بمعنى نختبره
ونمتحنه. الفعل المجرّد بلى يبلو أما فعل ابتلى يبتلي ففيه مبالغة أكثر من فعل بلى
مثل صبر واصطبر لأن صيغة افتعل فيها مبالغة مثل كسب واكتسب. إذن قال تعالى نبتليه
وليس نبلوه دلالة على المبالغة في الإختبار. وقد استعمل القرآن الكريم نبلو وابتلى
في مواضع عديدة فبعد غزوة أحد قال تعالى (وليبتلي الله ما في صدروكم) سورة آل
عمران ثم بعد غزوة الأحزاب قال تعالى (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً
شديدا) سورة الأحزاب. والقول أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غير
مضطرد لأنه أحياناً يكون الأقل في المبنى أبلغ في المعنى مثل فعل حذر (صيغة
مبالغة) وحاذر (إسم فاعل)، حذر أبلغ من حاذر وفيها صيغة مبالغة (وهذه الأمور تُعرف
في أبنية الفعل وفي معانيه في علم الصرف ودلالة الصيغ مثل صيغة فعّل وافتعل وتفاعل
واستفعل وغيرها)
ونسأل الآن لماذا جاءت
آية سورة الملك باستخدام فعل بلى يبلو في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ {2}) ؟ ولماذا جاء التخفيف في البلاء ولم يستعمل ليبتليكم؟ وما الفرق
بينهما؟
لو قرأنا آية سورة
الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) لوجدنا أنها تنتهي بقوله
تعالى وهو العزيز الغفور، والمغفرة تقتضي التخفيف أولاً لأن الإبتلاء والشدّة لا
تتناسبان مع الغفور التي هي أصلاً صفة مبالغة أما صيغة ليبلوكم فهي أنسب مع
المغفرة والتخفيف جزء من المغفرة. وهناك أمر آخر: نلاحظ في سورة الإنسان ذكر
تعالى ما يصحّ معه الإبتلاء (فجعلناه سميعاً بصيرا) (إنا هديناه السبيل) السمع
والبصر والإختيار والعقل وأطال في ذلك فلما أطال في ذكر ما تردد أطال في صيغة
الإبتلاء (نبتليه) أما في سورة الملك فلم يذكر أياً من وسائل الإبتلاء إنما ذكر
خلق السموات مباشرة في الآية التي بعدها فاقتضى استعمال الصيغة المخففة (ليبلوكم).
أمر آخر أنه تعالى ذكر
في سورة الإنسان شيئاً من ابتلاء الأعمال ما لم يذكره في سورة الملك. فذكر في سورة
الملك آية في المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12}) وآية في الكافرين (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6}) لكن في سورة الإنسان ذكر
الإبتلاء في الأعمال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً
وَأَسِيراً {8}) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25} وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً {26}) وأفاض في ذكر
النعيم في الآخرة مما لم يذكره في الملك (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن
كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) فذكر ما يستدعي الإبتلاء وذكر
الكافرين (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ
يَوْماً ثَقِيلاً {27}) وذكر الظالمين (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي
رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) والظلم
من نتائج الأعمال. إذن السياق والوسائل وما ذكر من الأعمال جعل ذكر الإبتلاء أنسب
من كل ناحية من حيث الوسائل وجو السورة والسياق والأعمال هذا من حيث الصيغة.
يأتي سؤال نحوي هنا :
قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا) فما
هو وضع نبتليه من الناحية النحوية في الآية؟ نبتليه جملة فعلية تحتمل
معنيين:
الأول : التعليل
نبتليه بمعنى لنبتليه كما قال في سورة الملك لنبلوكم، الجملة إسمها استئنافية تفيد
التعليل مثل: جئت أشتري داراً أو جئت أتعلم.
والإحتمال الثاني : أن
تكون حال مقدرة من الفاعل. والحال مقسمة إلى ثلاثة أقسام من حيث الدلالة على
الزمن:
1.
حال مقارنة: مثل جاء ماشياً أو شربت الماء بارداً وهذه أكثر
أنواع الحال.
2.
حال مقدّرة: تقع في الإستقبال يعني الفعل في زمن والحال في
زمن آخر في المستقبل كما جاء في قوله تعالى (وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين)
وهناك فرق بين الزمن عند تبشير إبراهيم بإسحق ولم يكن عندها موجوداً حتى في رحم
أمه، أو كقوله تعالى (لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم
ومقصرين) والحلق والتقصير هي آخر الشعائر بعد الطواف والسعي. إذن الفعل يأتي في
زمن والحال تأتي في زمن آخر في المستقبل.
3.
حال محكية قد يكون زمنها ماضي.
نعود للحال
المقدرة ودلالتها في آية سورة الإنسان: نبتليه جملة فعلية حال مقدرة من الفاعل
فقوله تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) بمعنى مبتلين له أي الله
تعالى هو المبتلي، ومحتمل أن تكون حال مقدرة من المفعول بمعنى خلقنا الإنسان
مُبتلى مثل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وأصلاً الحال يمكن أن تفيد
عِلّة مثل (جئت طامعاً في رضاك) و (جئت مبتغياً عونك) هي حال وتظهر كأنها علة. إذن
استخدام كلمة (نبتليه) أفاد معاني عدة وهذا من باب التوسع في المعنى لأنها احتملت
أن تكون استئنافية للتعليل، أو حال مقدرة من الفاعل أو حال مقدرة من المفعول. ولو
جاء الفعل باللام (لنبتليه) لما أفاد إلا معنى التعليل فقط وصيغة (نبتليه) أفادت
عدة معاني وكلها مقصودة في الآية.
ونسأل
لماذا لم تستخدم هذه الصيغة في آية سورة الملك لتفيد التوسع أيضاً؟ لأن
التعبير في سورة الملك لا يحتمل أصلاً لأنه تعالى ذكر في سورة الملك خلق الموت
والحياة ولم يذكر الإنسان أصلاً فكيف تأتي الحال وهو لم يذكر الإنسان ؟ إذن لا يصح
التعبير أما في سورة الإنسان فذكر الإنسان لذا جعل كل تعبير في مكانه الذي يؤدي
المعنى المطلوب بأوسع صورة.
من الملاحظ
في آية سورة الإنسان أن الله تعالى ذكر كل ما يصح معه الإبتلاء ومستلزمات
الإبتلاء: السمع (سميعاً) والبصر (بصيرا) والعقل (إنا هديناه السبيل) والإختيار
(إما شاكراً وإما كفورا) ولا يمكن للإنسان أن يكون شاكراً أو كفرواً إلا إذا كان
عاقلاً، وذكر مادة الإختيار أي السبيل الذي هداه الله له وذكر موقف المكلّفين من
الإختيار فقسم منهم شاكر وقسم كفور وذكر عاقبة الإبتلاء (الجنة والسعير) وذكر
المبتلي (وهو الله تعالى) وذكر المبتلى (وهو الإنسان) فلم يدع شيئاً يخص الإبتلاء
إلا وذكره في هذه الآية والإبتلاء لا يصح بدون هذه الأدوات كلها.
فجعلناه
سميعاً بصيرا: قدّم تعالى السمع على البصر في هذه الآية كما
هو شأن الكثير من آيات القرآن في تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم في باب
التكليف والإختبار من البصر لأن فاقد السمع من الصعب تكليفه بخلاف فاقد البصر الذي
يكمن تبليغه وتكليفه بشكل أسهل. والأمثلة في القرآن الكريم عديدة عن تقديم السمع
على البصر كقوله تعالى (وهو السميع البصير) (إنني معكما أسمع وأرى) (إن السمع
والبصر والفؤاد).
وفي هذه
الآية من سورة الإنسان قدّم تعالى السمع والبصر على الهداية فبعد أن قال تعالى
(فجعلناه سميعاً بصيرا) قال (وهديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا)لأن السمع
والبصر يوصلان المعلومات إلى العقل وبدونهما تتعسّر الهداية والأحكام في الغالب
تأتي بما يقدمه السمع والبصر فهما إذن أي السمع والبصر سبيل للوصول إلى الهداية
وسبيل العقل لفهم المعلومات. ومن الملاحظ أنه تعالى لم يفصل بين السمع والبصر
بالواو كأن يقول (سميعاً وبصيرا) أنما جاءت الصفتان متصلتان (سميعاً بصيرا) لئلا
يُفهم أنه تعالى خلق الإنسان على نوعين منهم من يسمع ومنهم من يُبصر.
بيانية في سورة الإنسان
قوله : ( هَلْ أَتَى
عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً {1} )
لو نظرنا في سياق
السورة نجد أن آيات السورة تذكر الإنسان قبل وجوده وتذكره وهو نطفة أمشاج وتذكره
فيما بعد كإنسان مكلّف وتذكره بعد خروجه من الدنيا إلى النعيم والمُلك الكبير أو
الأغلال والسعير، فالسورة كلها تذكّره في كل مراحل الإنسان فهي بحق سورة الإنسان
ولذا ناسب تسميتها سورة الإنسان.
والسورة تبدأ بقوله
تعالى (هل أتى) .إن المفسرين وأهل اللغة عموماً يقولون هل هنا معناها (قد) بمعنى
(قد أتى) لكن لا يُقصد بها الإخبار وإنما (قد) مسبوقة باستفهام بمعنى (أقد أتى)
فالإستفهام قائم والقصد منه التقرير وليس الإستفهام حقيقة. فالإستفهام حقيقة هو أن
يسأل الإنسان (هل أتى) لا أن يُخبر الإنسان (قد أتى) كما أننا لا نقول لشخص قد
أنعمت عليك لكن تقول هل أنعمت عليه ليأتي الجواب منه بنعم. فالله تعالى يسأل هل
أتى على الإنسان فيجيب الإنسان نعم فجواب السؤال لكل من يسأل هو نعم إذن من الذي
خلق الإنسان بعد أن كان عدماً؟ إذا كان أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً
مذكورا فمن الذي خلقه؟ فالجواب (إنا خلقنا الإنسان) أياً كان هذا الإنسان لم يكن
شيئاً مذكوراً.
الآن نسأل من المقصود
بهذا الإنسان الذي ذكره تعالى في مطلع السورة؟ هنا اختلف المفسرون فقسم قال أن
المقصود هو آدم u لم يكن شيئاً
مذكوراً عندما خلقه الله تعالى من الطين إلى قبل نفخ الروح فيه كان شيئاً ولم يكن
مذكورا، وقسم آخر يقول هو الإنسان بدليل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان من نطفة
أمشاج) يشمل ذرية آدم u وليس آدم لأن آدم
من تراب فكل واحد من البشر كان شيئاً في الرحم لكنه لم يكن مذكورا. لكن الذي يترجح
والله أعلم أن الإنسان في الآية يشمل آدم u ويشمل ذريته أي جنس الإنسان عموماً. ويأتي سؤال هنا في الحقيقة ما
المقصود بـ (لم يكن شيئاً مذكورا)؟ هل المقصود أنه لم يكن شيئاً أصلاً كقوله تعالى
في سورة مريم(ولقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) في خطابه لزكريا u أو قوله تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)
أو المقصود أنه خلقه أي كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا؟ فما دلالة كلمة (مذكورا)
هنا؟ وهل هي منفية أو مثبتة؟ مثل هذا التعبير في اللغة يحتمل معنيين وهذا من
باب التوسع في المعنى، فهو يحتمل نفي القيد أصلاً (لم يكن شيئاً) لا مذكوراً ولا
غيره كما في قوله تعالى (لا يسألون إلحافا( (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)
بمعنى أنهم لا يسألون لا ملحفين ولا غير ملحفين فيتعففون ولا يسألون الناس. وكذلك
يحتمل نفي القيد فقط بمعنى كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا كما في قوله تعالى (وما
خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) لم ينفي خلق السموات والأرض لكنه نفى
اللعب. وعليه فإن قوله تعالى (لم يكن شيئاً مذكورا) تحتمل أنه أتى على الإنسان حين
من الدهر لم يكن شيئاً أصلاً مذكوراً أو غير مذكور وتحتمل أن يكون شيئاً لكنه غير
مذكور.
يُبنى على هذا السؤال
سؤال آخر: إذا كان المُراد المعنى الأول (أي النفي أصلاً) أي العموم فلَمِ ذكر
كلمة مذكور ولم يقل كما جاء في سورة مريم (ولم تك شيئا) بدون ذكر كلمة مذكور؟ هناك
أكثر من سبب لذكر كلمة (مذكور) أولاً هي إشارة إلى تطور على جميع مراحل الإنسان
فقد خلق الإنسان من لا شيء وكان شيئاً ولم يكن مذكورا ثم نطفة أمشاج ولو لم يقل
مذكورا لأفاد أنه قفز فوق المرحلة الوسطى والسورة كما أسلفنا تتحدث عن تطور مراحل
الإنسان وجميع أطواره قبل وجوده ووجوده وهو غير مذكور ووجوده وهو مذكور والنطفة
وغيرها. إذن لماذا لم يستخدم كلمة مذكورا في سورة مريم؟ عدم ذكرها في سورة مريم هو
المناسب لأن الآية في السورة خطاب لزكريا u عندما دعا ربه ليهب له غلاماً فقال تعالى (إنا نبشرك بغلام اسمه
يحيى) فيتعجب زكريا (أنّى يكون لي غلام) فقال تعالى (ولقد خلقتك من قبل ولم تك
شيئا) بمعنى أن الله تعالى خلقه ولم يكن شيئاً أصلاً ولو قال شيئاً مذكورا لا تظهر
قدرة الله تعالى لأنها ستفيد أنه كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا. فالخلق من أبوين
أيسر عند الله من الخلق من العدم لكن الله تعالى يريد أن يُظهر أنه خلق زكريا ولم
يكن شيئاً مذكوراً أي خلقه من العدم وهذا أصعب من الخلق من أبوين وكله عند الله
تعالى سهل لكننا نتحدث من منطق البشر. والعموم يدلُ على القدرة الأكبر ولو قال في
آية سورة مريم (شيئاً مذكورا) لم تؤدي المعنى المطلوب في الآية. وهذا أدلُ على
القدرة، كذلك في قوله تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) لم
يأت بكلمة مذكورا هنا أيضاً لأن الخطاب في الآية للذين أنكروا البعث فهم يستبعدون
أن يعيدهم الله بعد موتهم فيخبرهم الله تعالى أن الإعادة أيسر من الإبتداء بالخلق
من عدم ونفي الشيء هو أبلغ من الذكر.
ومن الملاحظ أيضاً في
هذه الآية استخدام فعل أتى بدل فعل جاء والسبب أن القرآن يستعمل أتى فيما هو
أيسر أما جاء فيستعمل فيما هو أشقّ وأصعب. وهنا قال تعالى (هل أتى على الإنسان
) فالإنسان ليس فيه مشقة أو ثقل على إتيانه في مثل هذه الحالة استعمل أتى دون جاء.
وكذلك قدّم الجار
والمجرور (على الإنسان) على الفاعل (حين) والأصل أو يتقدم الفاعل على الجار
والمجرور لكن الكلام في الآية هو على الإنسان وليس على الدهر فالدهر يمر والكلام
في الإنسان فهو أهم من الدهر في السياق الذي وردت فيه الآية فاقتضى تأخير الفاعل
وتقديم الجار والمجرور.
ِ- قوله
( إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ
فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ){2}
بعد أن أثار تعالى
السؤال في الآية الأولى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا)
فإن السامع سيقول قطعاً نعم أتى عليه هذا الحين، فيُطرح سؤال آخر إذن: من خلق هذا
الإنسان وأوجده؟ فيجيب الله تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) والإجابة
جاءت بضمير التعظيم وبالتوكيد (إنّا) ضمير التعظيم مع التوكيد لأن هذا الأمر فيه
عظمة وجلال. وقد قدّم إسم إنّ على الجملة الفعلية التي هي خبر إن. ومن جملة معاني
التقديم هو القصر بمعنى نحن وحدنا خلقنا الإنسان على سبيل الحصر والقصر وقد أكد
تعالى ذلك بـ (إنّ) وذكر ذلك بضمير التعظيم إذن فهو الخالق حصراً ليس معه شريك
سبحانه.
وفي نفس الوقت قال
(نبتّله) بضمير التعظيم بدليل أن الخالق والمبتلي جهة واحدة وهو الله تعالى لأنه
أحياناً قد يكون الإبتلاء من إنسان على إنسان وهذا يدل على عظمة الأمر الذي يبتلي
به. ثم قال (فجعلناه) وهذا الفعل منسوب إلى الله تعالى أيضاً وهو سبحانه الذي
تفضّل على الإنسان بذلك فخلقه وأنشأه وهو الذي اختبره وذكر الوسائل التي يصحّ معها
الإختبار.
الإنسان: قال تعالى
(إنا خلقنا الإنسان) وهنا نسأل من هو الإنسان الذي ورد ذكره في الآية؟ في الآية
الأولى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) اختلف في مدلول
كلمة الإنسان أهو آدم u أم ذريته؟ أما في
هذه الآية فالمقصود قطعاً هم ذرية آدم لأنه تعالى ذكر أنه خلقه من نطفة أمشاج وهذا
لا يكون لآدم الذي خلقه من تراب. المرجّح في الآية الأولى أن المقصود بالإنسان
المذكور في الآية هو آدم u وفي الآية
الثانية ذرية آدم u فذكر الإنسان
الأول ومن بعده وهذا يدل على القدرة وعلى الإيجاد والإستمرار ولذلك لم يذكر الضمير
في الآية الثانية التي تدل على الإنسان فلم يقل مثلاً إنا خلقناه من نطفة
أمشاج باستعمال الضمير بل قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) وهذا يدل
على أن المقصود قطعاً ذرية آدم. وهذا كله يرجّح أن الإنسان في الآية الأولى يقصد
بها آدم u والإنسان في
الآية الثانية يقصد بها ذرية آدم u.
نطفة أمشاج: الأمشاج
لغة هي الأخلاط وكلمة أمشاج تستعمل مفرداً وجمعاً (مشيج ومشج والجمع أمشاج، مشيج
تجمع على أمشاج مثل شريف وأشراف، ومشج تجمع على أمشاج مثل بطل وأبطال ومشج ومزج متشابهتان
في المبنى والمعنى)، وفي اللغة العربية كلمات عديدة تستعمل مفرداً وجمعاً مثل كلمة
بشر وقد استعملت في القرآن الكريم للمفرد (أبشراً منا واحداً نتبعه) والجمع (ما
أنتم إلا بشر مثلنا) سورة يس، وكذلك كلمة الفلك استعملت في القرآن للمفرد (وآية
لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) سورة يس، وللجمع (حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة) سورة يونس، وكذلك كلمة طفل تستعمل للمفرد والجمع وقد يستعمل
جمعها أيضاً لأنها تجمع على أطفال (والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) و
(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم). والأمشاج هي الأخلاط وكما قلنا تستعمل للمفرد
والجمع ونسأل لماذا اختار الجمع على المفرد في هذه الآية؟ كان من الممكن القول
(نطفة مشيجة أو مشج) لكن اختيار الجمع لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات وهذا
موجود في اللغة فيقال : بلد سبسب (أي قفر) وبلد سباسب، يمكن القول بلد سباسب إذا
كثر فيه القفر كأن كل جزء من البلد هو سبسب والسبسب هي الأرض الواسعة الصحراء.
كذلك نقول أرض قفر وأرض قفار والجمع تعني أن كأن كل جزء من الأرض قفر على حدة،
ولهذا قال تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج من كثرة ما فيها من أخلاط.
نبتليه: بمعنى نختبره
ونمتحنه. الفعل المجرّد بلى يبلو أما فعل ابتلى يبتلي ففيه مبالغة أكثر من فعل بلى
مثل صبر واصطبر لأن صيغة افتعل فيها مبالغة مثل كسب واكتسب. إذن قال تعالى نبتليه
وليس نبلوه دلالة على المبالغة في الإختبار. وقد استعمل القرآن الكريم نبلو وابتلى
في مواضع عديدة فبعد غزوة أحد قال تعالى (وليبتلي الله ما في صدروكم) سورة آل
عمران ثم بعد غزوة الأحزاب قال تعالى (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً
شديدا) سورة الأحزاب. والقول أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غير
مضطرد لأنه أحياناً يكون الأقل في المبنى أبلغ في المعنى مثل فعل حذر (صيغة
مبالغة) وحاذر (إسم فاعل)، حذر أبلغ من حاذر وفيها صيغة مبالغة (وهذه الأمور تُعرف
في أبنية الفعل وفي معانيه في علم الصرف ودلالة الصيغ مثل صيغة فعّل وافتعل وتفاعل
واستفعل وغيرها)
ونسأل الآن لماذا جاءت
آية سورة الملك باستخدام فعل بلى يبلو في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ {2}) ؟ ولماذا جاء التخفيف في البلاء ولم يستعمل ليبتليكم؟ وما الفرق
بينهما؟
لو قرأنا آية سورة
الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) لوجدنا أنها تنتهي بقوله
تعالى وهو العزيز الغفور، والمغفرة تقتضي التخفيف أولاً لأن الإبتلاء والشدّة لا
تتناسبان مع الغفور التي هي أصلاً صفة مبالغة أما صيغة ليبلوكم فهي أنسب مع
المغفرة والتخفيف جزء من المغفرة. وهناك أمر آخر: نلاحظ في سورة الإنسان ذكر
تعالى ما يصحّ معه الإبتلاء (فجعلناه سميعاً بصيرا) (إنا هديناه السبيل) السمع
والبصر والإختيار والعقل وأطال في ذلك فلما أطال في ذكر ما تردد أطال في صيغة
الإبتلاء (نبتليه) أما في سورة الملك فلم يذكر أياً من وسائل الإبتلاء إنما ذكر
خلق السموات مباشرة في الآية التي بعدها فاقتضى استعمال الصيغة المخففة (ليبلوكم).
أمر آخر أنه تعالى ذكر
في سورة الإنسان شيئاً من ابتلاء الأعمال ما لم يذكره في سورة الملك. فذكر في سورة
الملك آية في المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12}) وآية في الكافرين (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6}) لكن في سورة الإنسان ذكر
الإبتلاء في الأعمال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً
وَأَسِيراً {8}) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25} وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً {26}) وأفاض في ذكر
النعيم في الآخرة مما لم يذكره في الملك (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن
كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) فذكر ما يستدعي الإبتلاء وذكر
الكافرين (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ
يَوْماً ثَقِيلاً {27}) وذكر الظالمين (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي
رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) والظلم
من نتائج الأعمال. إذن السياق والوسائل وما ذكر من الأعمال جعل ذكر الإبتلاء أنسب
من كل ناحية من حيث الوسائل وجو السورة والسياق والأعمال هذا من حيث الصيغة.
يأتي سؤال نحوي هنا :
قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا) فما
هو وضع نبتليه من الناحية النحوية في الآية؟ نبتليه جملة فعلية تحتمل
معنيين:
الأول : التعليل
نبتليه بمعنى لنبتليه كما قال في سورة الملك لنبلوكم، الجملة إسمها استئنافية تفيد
التعليل مثل: جئت أشتري داراً أو جئت أتعلم.
والإحتمال الثاني : أن
تكون حال مقدرة من الفاعل. والحال مقسمة إلى ثلاثة أقسام من حيث الدلالة على
الزمن:
1.
حال مقارنة: مثل جاء ماشياً أو شربت الماء بارداً وهذه أكثر
أنواع الحال.
2.
حال مقدّرة: تقع في الإستقبال يعني الفعل في زمن والحال في
زمن آخر في المستقبل كما جاء في قوله تعالى (وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين)
وهناك فرق بين الزمن عند تبشير إبراهيم بإسحق ولم يكن عندها موجوداً حتى في رحم
أمه، أو كقوله تعالى (لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم
ومقصرين) والحلق والتقصير هي آخر الشعائر بعد الطواف والسعي. إذن الفعل يأتي في
زمن والحال تأتي في زمن آخر في المستقبل.
3.
حال محكية قد يكون زمنها ماضي.
نعود للحال
المقدرة ودلالتها في آية سورة الإنسان: نبتليه جملة فعلية حال مقدرة من الفاعل
فقوله تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) بمعنى مبتلين له أي الله
تعالى هو المبتلي، ومحتمل أن تكون حال مقدرة من المفعول بمعنى خلقنا الإنسان
مُبتلى مثل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وأصلاً الحال يمكن أن تفيد
عِلّة مثل (جئت طامعاً في رضاك) و (جئت مبتغياً عونك) هي حال وتظهر كأنها علة. إذن
استخدام كلمة (نبتليه) أفاد معاني عدة وهذا من باب التوسع في المعنى لأنها احتملت
أن تكون استئنافية للتعليل، أو حال مقدرة من الفاعل أو حال مقدرة من المفعول. ولو
جاء الفعل باللام (لنبتليه) لما أفاد إلا معنى التعليل فقط وصيغة (نبتليه) أفادت
عدة معاني وكلها مقصودة في الآية.
ونسأل
لماذا لم تستخدم هذه الصيغة في آية سورة الملك لتفيد التوسع أيضاً؟ لأن
التعبير في سورة الملك لا يحتمل أصلاً لأنه تعالى ذكر في سورة الملك خلق الموت
والحياة ولم يذكر الإنسان أصلاً فكيف تأتي الحال وهو لم يذكر الإنسان ؟ إذن لا يصح
التعبير أما في سورة الإنسان فذكر الإنسان لذا جعل كل تعبير في مكانه الذي يؤدي
المعنى المطلوب بأوسع صورة.
من الملاحظ
في آية سورة الإنسان أن الله تعالى ذكر كل ما يصح معه الإبتلاء ومستلزمات
الإبتلاء: السمع (سميعاً) والبصر (بصيرا) والعقل (إنا هديناه السبيل) والإختيار
(إما شاكراً وإما كفورا) ولا يمكن للإنسان أن يكون شاكراً أو كفرواً إلا إذا كان
عاقلاً، وذكر مادة الإختيار أي السبيل الذي هداه الله له وذكر موقف المكلّفين من
الإختيار فقسم منهم شاكر وقسم كفور وذكر عاقبة الإبتلاء (الجنة والسعير) وذكر
المبتلي (وهو الله تعالى) وذكر المبتلى (وهو الإنسان) فلم يدع شيئاً يخص الإبتلاء
إلا وذكره في هذه الآية والإبتلاء لا يصح بدون هذه الأدوات كلها.
فجعلناه
سميعاً بصيرا: قدّم تعالى السمع على البصر في هذه الآية كما
هو شأن الكثير من آيات القرآن في تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم في باب
التكليف والإختبار من البصر لأن فاقد السمع من الصعب تكليفه بخلاف فاقد البصر الذي
يكمن تبليغه وتكليفه بشكل أسهل. والأمثلة في القرآن الكريم عديدة عن تقديم السمع
على البصر كقوله تعالى (وهو السميع البصير) (إنني معكما أسمع وأرى) (إن السمع
والبصر والفؤاد).
وفي هذه
الآية من سورة الإنسان قدّم تعالى السمع والبصر على الهداية فبعد أن قال تعالى
(فجعلناه سميعاً بصيرا) قال (وهديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا)لأن السمع
والبصر يوصلان المعلومات إلى العقل وبدونهما تتعسّر الهداية والأحكام في الغالب
تأتي بما يقدمه السمع والبصر فهما إذن أي السمع والبصر سبيل للوصول إلى الهداية
وسبيل العقل لفهم المعلومات. ومن الملاحظ أنه تعالى لم يفصل بين السمع والبصر
بالواو كأن يقول (سميعاً وبصيرا) أنما جاءت الصفتان متصلتان (سميعاً بصيرا) لئلا
يُفهم أنه تعالى خلق الإنسان على نوعين منهم من يسمع ومنهم من يُبصر.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin