المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. منيهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهلا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الإسلام لم يُزرأ بأعظم مما أبدعه المنتسبون إليه، وما أحدثه الغُلاةمن المفتريات عليه؛ فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين وأساء ظنون غيرهم فيمابني عليه دين الإسلام - ولعَمر الحق - ما بني دين الإسلام إلا على أصلين:
الأصل الأول: أن لا يعبدإلا الله وحده لا شريك له.
الأصل الثاني: أن لا يعبدالله إلا بما شرع؛ قال تعالى: ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوالِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِرَبِّهِ أَحَدًا[ [الكهف: 110].
وقال تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلَّالِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[ [البينة: 5].
ولا مرية في أن الشريعة الإسلامية السمحة قد جاءت لمصالح العباد في عاجلتهموآجلتهم، فما خرج عن هذين الأصلين فهو البدعة؛ ولله در الإمام مالك رحمه اللهفكثيرًا ما كان ينشد:
وكلما طال العهد بالمسلمين تجلت غربة الإسلام، والتبس الحق بالباطل،واختلطت الأمور، واستحكمت البدع والخرافات، وحار الناس في أمر دينهم؛ فإذا البدعةسُنَّة وإذا السٌّنة بدعة، وكادت الرؤيا تنعدم في ذلك الجو الغريب عن شريعةالإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
«وقد عرفنا من تاريخ الأديان والشرائع أن التحريف الابتداعي قد أصاب الأمةمن جهات ثلاث:
1- من جهة العقيدة: ومنها دخلالشرك، وعبادة غير الله، من دعاء واستعانة واستغاثة ولجوء إلى غيره فيما لا يجوزصرفه إلا إلى الله تعالى.
2- ومن جهة العبادة: ومنها دخلالتغيير بالزيادة أو النقص والتغيير في الكيفية.
3- ومن جهة الحلال والحرام: ومنهاحُرَّمَ الحلال واحتيل فحُلل الحرام.
وإذا أحصينا أسباب ذلك وجدنا أن أسباب البدع كثيرة يصعب حصرها أو تعدادهاومن أهم هذه الأسباب:
1- القول في الدين بغير علم.
2- ممارسة الجاهل لأمور التعليم والفتوى.
3- الجهل بالسُّنة ومكانتها في التشريع وعدم التمييز بين الأحاديث الصحيحةوغيرها الضعيفة والموضوعة.
4- اتباع الهوى والشهوات والتسليم لغير المعصوم صلى الله عليه وسلم.
5- اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة من المبتدعين وابتغاء تأويله من الجهلةالمتعالمين([sup][1])[/sup].
ويتساءل المسلم الحريص الغيور على دينه: كيف الطريق إلى الله؟ وكيف الطريقإلى السنة؟
ولا أجد إجابة أشفى مما أجاب به أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني حيث قال: «الطرقإلى الله كثيرة، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه: اتباع السنة قولاً وفعلاً وعزمًاوعقدًا ونية؛ لأن الله تعالى يقول: ]وَإِنْ تُطِيعُوهُتَهْتَدُوا[ [النور: 54] فقيل له: وكيف الطريق إلى السنة؟ فقال:مجانبة البدع واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ولزوم طريقالاقتداء»([sup][2])[/sup].
إذا تقرر ذلك: كانالتنبيه على المنكر وأطر الناس على اتباع الحق أمر واجب على المسلمين عامة وعلىالعلماء بخاصة.
نعم: يجب نشر العلم النافع: علم التوحيد وإصلاح العقيدةوالقضاء على العقائد الفاسدة والادعاءات الباطلة والعادات والتقاليد البالية التيشوهت معالم الدين وزيفت حقائقه ومعتقداته واستُميل بها قلوب كثير من العواموالجهال.
نعم: يجب أن ننهج في أمور ديننا ودنيانا على هدي من الكتابوالسنة وآثار سلف هذه الأمة فإن في ذلك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
نعم: يجب أن ندافع عن عقيدة التوحيد الخالص لننفي عنها عبثالعابثين ومكائد الضالين وتحريف المبتدعين وأباطيل الملحدين، لنكون في مأمن منغوائل هذه الآفات الكاسدة والضلالات الفتاكة وغيرها من معاول الهدم والتخريب التيشوهت جمال الإسلام وحضارته وحالت دون تقدم المسلمين.
وشعورًا بالمسئولية وبدافع من الغيرة الإسلامية رأيت أن أقدم هذه الصفحاتالمتواضعة تحت عنوان:
«آداب وأحكام زيارة المدينة المنورة»
ومن الأسباب التي جعلتني أكتب في هذا الموضوع هو الادعاء بأن زيارة قبرالنبي r تُنال بها الحاجات وهي الغاية القصوى التي شمَّر إليها المحبون، وتنافسفيها المتنافسون، ولمثلها فليعمل العاملون، وهذه العبارات تحمل إطراءً ومبالغةتتجاوز الحد الشرعي، كما سنقف على إيضاح ذلك إن شاء الله.
وقد ترتب على هذا الإطراء والمبالغة أن فئة من المسلمين أصبح معظم قصدهم منالحج زيارة قبر النبي r، ظنًّا منهم أن ذلك من تمام الحج وكماله، وربما انطلى هذا المفهوم على بعضالمنتسبين للعلم فقرروه في كتبهم ومناسكهم، بل وردّد بعض العلماء هذه العباراتالمتكلفة وما شاكلها من عبارات السجع والإطراء، وهم على جلالة قدرهم ورسوخ قدمهمفي العلم كابن حجر العسقلاني والقسطلاني – رحمهما الله – وغيرهما؛ وقد حذَّر السلفالصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين؛ فإنه ربما ظهرت فتطير فيالناس كل مطار فيعدونها دينًا، وهي ضد الدين، فتكون الزلة حجة في الدين.
روى الدارمي عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين([sup][3])[/sup].عافانا الله وإياهم وغفر زلتهم، وتجاوز عنهم، وعاملهم بقصدهم ونيتهم، إنه على كلشيء قدير.
تحريرًا في غرة ذي القعدة1419هـ.
بمدينة الرياض
وكتبه راجي عفو ربه المنان
صالح الغانم السَّدلان
زيارة قبر النبي r
إن شد الرحال لزيارة قبر النبي r، لم يعرفه السلف في كتبهم ولم يكتبوه في مؤلفاتهم، بل هو تعبير غريب لايعرفه السلف الصالح وإنما هو محض المبالغة والتكلف والإطراء المتجاوز للحد الشرعي.
وليس في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها موضوع تحت عنوان: «زيارةقبر النبي r». وإنما تكلم بذلك من تكلم من بعض المتأخرين، وحسبنا ما كان عليه سلف هذهالأمة وأئمتها.
ومعلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده صلىالله عليه وسلم والمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن، ثم يأتيإلى القبر فيزوره زيارة شرعية كما يزور عامة قبور المسلمين في بلدان الإسلامللاعتبار والدعاء لهم بدون سفر إليها أو قصد لها.
وعلى من أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص الثابتة ليعرف ما كانعليه السلف الصالح ومن سار على نهجهم وما قاله أئمة المسلمين، حتى لا يحرف الكلمعن مواضعه ويصرفه عن ظاهره بالعبارات المسجوعة المنمقة والكلمات المستنكرةالمردودة، فالوصول إلى مسجده والصلاة فيه أولاً، ثم الزيارة للقبر مغمورة فيه، ومنادعى خلاف ذلك فعليه البيان مع البرهان.
ولو سلَّمنا جدلاً أن زيارة قبر النبي r بشد الرحل إليه مندوب أو واجب وأنها الغاية القصوى وهي من أعظم القرباتوأرجى الطاعات ... إلخ. فأين الدليل على ذلك؟ ثم من هم الذين فعلوا ذلك؟ هل همأصحاب رسول الله r والأئمة من التابعين وأتباعهم؟ أم هم أناس جانبوا العلم والتحقيق، واكتفوابما يأخذون عن مشائخهم، وما يكتبون لهم في أورادهم؟!
إن كان الأول فلا دليل عليه لأن أئمة المسلمين من السلف والخلف لا يتكلمونفي الدين بأن هذا واجب أو مندوب أو سنة أو مستحب أو حلال أو حرام أو مباح إلابدليل شرعي من الكتاب والسنة وما دلا عليه. ولم يحصل منهم كلامٌ في ذلك، ومن نسبإليهم شيئًا من ذلك فليبرزه.
وإن كان الثاني فليسوا بحجة.
وقد كره الإمام مالك رحمه الله وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي r، كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم،ومالك رحمه الله من أعلم الناس بهذا؛ لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابةبالمدينة ولهذا كره لأهل المدينة كلما دخل إنسان مسجد رسول الله r أن يأتي قبر النبي r؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلونه، وقال: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلحأولها. وقال القاضي عياض: وسر كراهة مالك لذلك لإضافته إلى قبر النبي r.
وعن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله r قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذواقبور أنبيائهم مساجد»([sup][4])[/sup].
فالتنافس والتشمير فيما وافق الشرع وسار على النهج وكيف يُبتغى الفضل فيمخالفة الصواب!؟
لا يخفى أن زيارته r في حياته فيها من الفوائد التي لا توجد في الوصول إليه r بعد مماته: منها النظر إلى ذاته الشريفة وتعلُّم أحكام الشريعة، والجهادبين يديه وغير ذلك.
أما بعد وفاته r فيجب علينا متابعته والتمسك بسنته باطنًا وظاهرًا وتعظيمه وتوقيره ومحبتهوموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته،وهذا هو المشروع في الدين، بل إن كثيرًا من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية،وجمع من الحنابلة وأهل الحديث ذهبوا إلى عدم مشروعية زيارة قبره r، وذلك بالسفر وشد الرحل.
وكل الأحاديث التي من فضل زيارة قبره r موضوعة مكذوبة واهية، لا يثبت بها حكم شرعي،وبمثلها لا يصلح الاحتجاج، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيء، ولا أصحابالصحيح كالبخاري ومسلم، ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي، ولا الأئمة من أهلالمسانيد كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالكوالشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأمثالهم، بل عامة هذهالأحاديث مما يُعلَمُ أنها كذب موضوعة، ولم يثبت عنه r حديث واحد في زيارة قبره([sup][5])[/sup].
بيان درجة الأحاديث الواردة فيزيارة
قبر الرسول r وحكم الاحتجاج بها
1- «من حجفزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» وله ألفاظ أخرى تأتي.
2- «من حج فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي».
3- «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».
4- «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».
5- «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني».
6- «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث منالآمنين يوم القيامة».
7- «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زارني حتى ينتهي إلىقبري كنت له يوم القيامة شهيدًا أو قال شفيعًا».
8- «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي».
9- «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني».
وما نقلناه هنا من الروايات هو معظمها لا كلها، وبعض الروايات جاءت بالنقصوبعضها بالزيادة إلا أن معانيها كلها تتضمن الحث على زيارة قبر النبي r بعد موته ومساواة من زاره في مماته بمن زاره في حياته، وأنى ذلك؟
وهذه الأحاديث لا يجوز الاحتجاج بها، ولا يصلح الاعتماد عليها فإنها أحاديثمنكرة المتن، ساقطة الإسناد، لم يصححها أحد من الحفاظ، ولا احتج بها أحد منالأئمة، بل ضعفوها وطعنوا فيها، وذكر بعضهم أنها من الأحاديث الموضوعة والأخبارالمكذوبة، ولم يقل بها أحد ذاق طعم الحديث. ولا يقويها أنها رويت من طرق متعددةوزيادات مختلفة، بل هذه الزيادات تزيده إيهامًا وتلبيسًا وخبطًا وتخليطًا، ووجوههكلها التي رويت بها لا يرتفع بها عن درجة الضعف والسقوط، ولا ينهض إلى رتبة تقتضيالاعتبار والاستشهاد لظلمة إسناده وجهالة رواته وضعف بعضهم واختلاطه واضطرابحديثه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأحاديث زيارة قبره r كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاحوالسنن شيئًا منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهم. وأجودحديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه، وهو: «منزارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ...» الحديث.
فإن هذا كذبٌ ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمنًابه كان من أصحابه لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه. والواحد بعدالصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصياموالصلاة، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين؟ بل ولا شُرِعَ السفر إليه، بل هومنهي عنه»([sup][6])[/sup].
فجعل زيارة قبره r كزيارته حيًّا لم يقل به أحد من المسلمين، لأن من زاره حيًّا حصل لهبمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك، ما لا يحصل لمن لم يشاهدهولم يسمع كلامه، وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته بمنزلةرؤيته ومشاهدته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد منأصحابه! ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل.
فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعةفي جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرسول التعظيم التام والمحبةالتامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان.
إذا تقرر ذلك: فإن زيارة الرسول r في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر لزيارته في حج أوغيره مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، ولا تحط الأوزار أو تنور القلوب بالمعارفوالأسرار.
إن المقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله لله، وذلك ما جاء به القرآنودعا إليه الرسل كلهم، ولذلك خلق الله الخلق. قال تعالى: ]وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[
[الذاريات: 56]، أي: يوحدون، ويخلصون العمل لله وحده، وحق الرسول r علينا إنما يتمثل في اتباعه وطاعته ومحبته، وإكثار الصلاة والسلام عليه فيكل مكان وزمان، وعدم الركون إلى تأويلات الجهلة وانتحال المبطلين المجاهرينبالباطل والمغالين في أمور تُشْمِتُ أعداء الإسلام فينا بما يأتون به من أحاديثمكذوبة ويتمسكون به من خيوط واهية في أمور تمس عقيدة المسلم، وإذن فلا تقبل مثلهذه الأحاديث البتة. والله يضل من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
قال الحافظ ابن حجر: أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة([sup][7])[/sup].ولو جاء عن النبي r الترغيب في زيارة قبره أو كثرة الاختلاف إليه والحث عليه لكان أصحاب رسولالله r والتابعون لهم بإحسان أحق الناس بالعكوف على قبره وكثرة انتيابه والازدحامعنده وتقبيله والتمسح به، وكانوا أشد الناس ترغيبًا للأمة في ذلك، بل المحفوظ عنهمالزجر عن مثل ذلك والنهي عنه.
روى سعيد بن منصور في «سننه» عن عبد العزيز بن محمد قال: أخبرني سهيل بنأبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو فيبيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عندالقبر؟ فقلت: سلمت على النبي r فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله r قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهوداتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». ماأنتم ومن بالأندلس إلا سواء ([sup][8])[/sup].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فانظر هذه السُّنَّة كيف مخرجها منأهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله r قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا لها أضبط»([sup][9])[/sup].
* * *
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
إنَّ شد الرحال على وجه القربة أمرٌ توفيقي ليس لأحد أن يأمر به ولا يدعوإليه بل ذلك خاص لمن له هذا الحق، وهو رسول الله r.
فشد الرحال إلى بقاع مخصصة من الأرض على وجه العبادة والتقرب إلى اللهمحصورٌ بقوله r: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذاوالمسجد الأقصى».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن كان قصده بالسفر زيارة قبره r دون الصلاة في مسجده فهذه المسألة فيها خلاف، والصحيح أن زيارة قبره r ليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمرٌ في الكتاب ولا فيالسُّنَّة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم، فصلىالله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء: أن شد الرحل لزيارة قبره r غير مشروع ولا مأمور به، بل المشروع والمأمور به شد الرحال إلى ثلاثةمساجد. في قوله r: «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»([sup][10])[/sup].
إذنالتقرب إلى الله عز وجل بما ليس بطاعة هو معصية؛ لأنه نهي عن ذلك، والنهي يقتضيالتحريم.
وقد نصالعلماء على أن من نَذَر السفر لزيارة قبر النبي r لا يجبعليه الوفاء؛ لأن النذر إنما يجب الوفاء به إذا كان في طاعة، ونذر زيارة قبر النبيr وغيرهمن الأنبياء والصالحين والأولياء معصية، لذا لم يجب الوفاء بها، وأيضًا نص بعض أهلالعلم كابن عقيل وغيره على أن المسافر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين لا يقصرالصلاة في هذا السفر، لأنه معصية لكونه معتقدًا أنها طاعة وليس بطاعة والتقرب إلىالله عز وجل بما ليس بطاعة هو معصية ([sup][11])[/sup].
فمن رخصفي زيارة القبور من العلماء – كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وتقي الدين السبكيوابن حجر الهيثمي وغيرهم – فقد استدلوا بما سبق من الأحاديث التي ثبت وضعها وكذبهاهي وغيرها مما رواه الطبراني وغيره، لهذا لم يحتج بها أحد من السلف والأئمة،وبمثلها لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، فالله المستعان.
والصلاةوالسلام على رسول الله r مأموربها في كل حين وآن، ويجب ذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، ويُسن عند تكرار اسمهعليه الصلاة والسلام، كما أنه ركن في التشهد في الصلاة.
إن محبتهصلى الله عليه وسلم تتحقق في اتباع أمره واجتناب نهيه قال تعالى: ]قُلْ إِنْكُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[[آل عمران: 31].
ومحبته r تتحققفي أمور أربعة:
1- طاعتهفيما أمر.
2-تصديقه فيما أخبر.
3-اجتناب ما نهى عنه وزجر.
4- أن لايعبد الله إلا بما شرع.
* * *
آداب دخول المسجد
والسلام على النبي r
روى الإمام أحمد في «مسنده» وأصحاب «السنن» عن فاطمة بنت رسول الله r: «أن النبي r قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: بسم الله والصلاة والسلام على رسولالله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك». وإذا خرج قال: «بسم اللهوالصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك»([sup][12])[/sup].
فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد والخروج منه، وفي نفس كل صلاة، وهذاأفضل وأنفع من الصلاة عليه عند قبره وأدوم، وهذه مصلحة محضة لا مفسدة فيها، يرضىالله عنها ويوصل نفعها إلى رسول الله r وإلى المؤمنين، وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول كل مسجد والخروج منه.
يبدأ بعد دخوله المسجد بصلاة ركعتين تحية المسجد. لما روى البخاري في «صحيحه»عن أبي قتادة السلمي أن رسول الله r قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»([sup][13])[/sup].
ولما قررناه من أن قصد زيارة قبر النبي r ليست مشروعة، وإنما المشروع زيارة المسجد فيبدأ بتحيته.
وإن تيسر له صلاَّهما في الروضة الشريفة لقوله r: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي»([sup][14])[/sup].
فحيث صلاهما في أي مكان من المسجد تحقق بذلك فعل السنة المطلوبة عند دخولالمسجد، ولكن في الروضة أفضل، وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي، ونقلعن مالك أنه يستحب التطوع في موضع صلاة النبي r، وقيل: لا يتعين لذلك موضع من المسجد وهو الأصح إلا إذا كان للمصلي غرضللوصول إلى الصف الأول، وأما الفرض فيصليه مع الإمام بلا ريب حرصًا على الصف الأول([sup][15])[/sup].
وبعد أن يصلي تحية المسجد أو يصلي الفريضة يذهب إلى الحجرة الشريفة يُسلمعلى النبي r مستقبل الحجرة، والقبلة وراءه عند أكثر العلماء، وعند أصحاب أبي حنيفة لايستقبل القبر وقت السلام على النبي r.
أما الدعاء: فلم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يقف عند القبر للدعاءلنفسه، فإن هذا بدعة. وإذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة وجعل القبروراءه ودعا.
ولم يقل أحد من العلماء أنه يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره، بل إن الصحابةكانوا يدعون في مسجده، ولا يقصدون الدعاء عند الحجرة([sup][16])[/sup]، لا مستقبلي القبر ولامستدبريه. والحكاية المروية عن مالك أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاءكذب على مالك رحمه الله.
والنبي r يُبَلَّغ سلام من سلَّم عليه، تبلغه إياه الملائكة، لا أنه يسمع ذلكبأذنيه كما كان في حال حياته. إذ ليس لأحد من البشر بعد موته أن يسمع أصوات العبادمن قرب أو بُعد، فضلاً عن أن يعلم نياتهم وخواطرهم إلا إذا كان ذلك السماع معجزةللنبي r وهذا يتوقف على الدليل المعين لذلك، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قولالنصارى الذين يقولون إن المسيح هو الله وأنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهمويستجيب دعاءهم، لا بل الذي يسمع السر والنجوى إنما هو الله رب العالمين.
قال تعالى: ]أَمْ يَحْسَبُونَأَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْيَكْتُبُونَ[ [الزخرف: 80].
ودعوى أن النبي r يعلم ويسمع ويعرف النيات والخواطر والأحوال بعد موته غلو غير مقبول وإطراءللنبي r وتعظيم له ورفع له فوق منزلته، فالنبي r يوصف بأنه ميت وجسده باق وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياءولا يتعدى الأمر ذلك، كأن يوصف النبي r بأنه يسمع أو يعلم أو يطلع على النيات والخواطر وغير ذلك من خصائصالربوبية.
وإذا كان النبي r في حياته بشرًا يوحى إليه ولا يعلم الغيب إلا بإعلام الله له فكيف وهو قدمات، فبأي دليل يثبت من شذ وخلط بين حق الله ورسوله r ولم يميز بين ما هو حق لله وما هو حق للرسول r؟
نعم: إن النبي r قد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيدولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة، ولكن مع هذا فإن الله سبحانه وتعالى قدنهانا عن أن نشرك به أو أن نرفع رسوله فوق منزلته التي أنزله إياها بالغلو فيتعظيمه.
قال تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا أَنَابَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْكَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْبِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[ [الكهف:110].
وأنه لا يعلم الغيب إلا الله: قال تعالى: ]قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَايَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[ [النمل: 65].
ولا يطلع على النيات والخواطر سوى اللطيف الخبير الذي ]يَعْلَمُالسِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُالْحُسْنَى[ [طه: 7، 8]، قال تعالى: ]قُلْ إِنْتُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَافِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [آل عمران: 29].
وقال الله تعالى: ]يَعْلَمُ مَا فِيالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُعَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ [التغابن: 4].
فالرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده، والتوكل عليه وحده، ويمتنع أن يكونالمخلوق مثل الخالق سبحانه وتعالى، فمن نفى عن مخلوق – ملك أو نبي أو غيرهما – ماكان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقًّا واجب القبول، ومن أثبت ذلككان إثباته إطراءً للمخلوق وزيادة في التعظيم على ما يستحقه، نعوذ بالله من التكلفوالهوى والقول على الله بغير علم، ونعوذ بالله أن نصف الرسول r بما ليس فيه فنكون من الهالكين ([sup][17])[/sup].
وأما حضور القلب وغض الطرف والإطراق والسكون والانكسار عند السلام علىالنبي r كما يزعم المتصوفة فهذه أحوال تتطلب حال العبادة كالصلاة والوقوف بعرفة،فإن العبد يستشعر جلال مولاه ووقوفه بين يديه ومناجاته لربه الذي يعلم ما تكنهالأنفس وما تخفيه الصدور وكون العبد يستحضر هذه الأحوال عند قبر الرسول r دعوى من غير دليل ومبالغة بل وغلو في تعظيم الرسول r، وكل ما يطلب من المسلم لرسول الله r إنما هو الأدب بحيث لا يرفع صوته هناك ولا يأت بمنافٍ لحال ما هو فيه منذكر الموت والقبر وما لكل حي مصيره.
وقد أمر الله تعالى بالتأدب بين يدي رسول الله r في حياته فقال: ]يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَاتَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَأَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[ [الحجرات: 2].
ومن تأمل القرآن الكريم والسُّنَّة الصحيحة الثابتة عن رسول الله r عرف ما يجب من الأدب، والتعظيم لرسول الله r وفعل ما أمر به. قال r: «لا تطروني كما تطري النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد اللهورسوله»([sup][18])[/sup].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدناوخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله r: «يا أيها الناس: عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنعبد الله: عبدُ الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللهعز وجل»([sup][19])[/sup].
فتعظيم الرسول r أن تُطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم عليه غيره، وهذا هو الذي يقرهالشرع ويأمر به ويثني على فاعله، أما أن نعظمه عند قبره بغض الطرف وسكون الجوارحوالإطراق ...إلخ. فهذا في الحقيقة غلو في تعظيمه ومعاملة له بضد ما أمر به ودعاءإلى ما حذر منه وعصيان ومخالفة لأمره r، ومن يفعله مبغوض لا محبوب، معاقب لا مثاب.
فعلى المسلم أن يترسم هدي رسول الله r في كل ما يقول ويفعل، ومن يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل الله فما له منهاد.
وكان العمل الشائع لدى الصحابة – الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين –أنهم يدخلون مسجده ويصلون ويسلمون عليه في الصلاة، ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لامن داخل الحجرة ولا من خارجها، لا لسلام ولا لصلاة ولا غير ذلك من حقوقه المأموربها في كل مكان ([sup][20])[/sup].
وكان ابن عمر وحده هو الذي يذهب إلى القبر إذا قدم من سفر، فيقول: السلامعليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت.
ولم يتابعه عليه أحد من الصحابة ([sup][21])[/sup]، فتأمل كيف أن هذا السلامالمختصر، والذي هو في غاية الأدب لم يكن أحد يفعله من الصحابة غير ابن عمر، وهذامنهم مبالغة في سد يفضي إلى البدعة والغلو فيه r.
وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي r مع كثرة الصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك وقال: هو بدعة لم يفعلهاالسلف، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها([sup][22])[/sup].
فعلى المسلم أن يعرف ما ورد عن السلف رضوان الله عليهم من الصلاة والسلامعلى رسول الله في الصلاة وخارجها دون إفراط أو تفريط والله الهادي إلى سواءالسبيل.
ثم السلام على أبي بكر الصديق: تنتقل عن يمينه r قدر ذراع وتسلم على أبي بكر الصديق وتقول: السلام عليك يا خليفة رسول اللهr.
ثم السلام على عمر بن الخطاب: تنتقل عن يمين أبي بكر الصديق رضي الله عنهقدر ذراع وتقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
والسلام على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إنما هو من جنسالسلام على سائر الأموات، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسلم على رسول الله r وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر وكان يقول: السلام عليك يا رسول الله،السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف.
ومن ثم رأى من رأى من العلماء هذا جائزًا اقتداء بابن عمر – رضي الله عنهما– في السلام بهذه الصيغة ([sup][23])[/sup].
أما من يدعو ويقول: اللهم وارض عن أبي بكر وعمر وارض عنا به، فهذا خلطووهم، وخطأ بين، وجهل ذريع، وقلب للحقائق بغير علم ولا دليل. فإنه لا واسطة بينالله وبين أحد من خلقه. ولا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بذاته ولا بمنزلتهولا بعمله، ولا سؤال الله به.
ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله ويتوسل إليه إلا بما شرع من سؤاله بأسمائهالحسنى وصفاته العُلا وبالأعمال الصالحة التي شرعها لعباده وبدعاء الأحياءالصالحين، ولم يعرف قط أن الصديق أبا بكر وعمر بن الخطاب وأكابر الصحابة رضوانالله عليهم سألوا النبي r أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين.
نعم: دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به ما دام في حياته لورودما يدل عليه. أما أن يسأل المؤمن الله تعالى بحق فلان أو بذاته أو بجاهه بعد موتهفهذا من أعظم أنواع البدع المحرمة التي سد الله ورسوله ذريعتها وينبغي أن يكتفيبالسلام المشروع([sup][24])[/sup].
لم يكن أحد من السلف يأتي على قبر النبي r لأجل الدعاء عنده بعد السلام عليه ولا كان الصحابة رضوان الله عليهميقصدون الدعاء عند قبره لا مستقبلي القبلة ولا مستدبريها. ولم يقل أحد من العلماء أنالدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره r أو متوجهًا إلى القبلة عند قبره r، إلا ما ذكره بعض أهل العلم في كتبهم من استحباب استقبال القبلة ويجعلالحجرة عن يساره ويدعو قريبًا من الحجرة أو بعدها.
هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سُنَّة، والأولى للمسلم إذا أراد أن يصيبالسنة: أن يسلم على النبي r وعلى صاحبيه ثم ينصرف ولا يقبل مستقبل القبلة ولا مستقبل القبر للدعاء، بلنص أئمة السلف على أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء مطلقًا.
قال الإمام مالك فيما روي عنه: لا أرى أن يقف عند قبر النبي r يدعو ولكن يسلم ويمضي كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن عقيل، وابن الجوزي: يكره قصد القبور للدعاء.
وقال مالك: هو بدعة لم يفعلها السلف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يكره قصد القبور للدعاء ووقوفه عندها أيضًاللدعاء ([sup][25])[/sup].
وهكذا حمد الله تعالى والصلاة على النبي r وإكثار الدعاء والتضرع وتجديد التوبة عند قبره عليه الصلاة والسلام لميثبت عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، وإنما المأثور عن السلفوالأئمة أنهم يستحبون عند قبره r ما هو من جنس الدعاء له عليه الصلاة والسلام والتحية كالصلاة والسلام عليهفقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لم يكن في الصحابة والتابعينوالأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياءوالصالحين لا مطلقًا ولا معينًا. وليس فيهم من قال: إن دعاء الإنسان عند قبورالأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة ولا أن الصلاة في تلك البقعةأفضل من الصلاة في غيرها ولا فيهم من كان يتحرى الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور.
ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ودعا له»([sup][26])[/sup].
قلت: والمتعين ترك ذلك والإعراض عنه؛ لأنه يفتح باب بدعة وفتنة.
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له r سؤال تطلب فيه الوسيلة وبعثه المقام المحمود([sup][27])[/sup].
ثم إن استقبال القبلة أو استدبارها للدعاء وتجديد التوبة والتضرع ليس عليهدليل ولا هذا الموضوع من مواضع إجابة الدعاء، لأن مواضع إجابة الدعوة توقيفية مثلالدعاء في السجود وآخر الليل وأدبار الصلوات وبعد تلاوة القرآن الكريم وبعد النداءوبين الأذان والإقامة وعند نزول الغيث ومجالس الذكر واجتماع المسلمين ودعاءالمسلمين لأخيه يظهر الغيب وفي ليلة القدر ويوم عرفة وليلة الجمعة ويومها، ونحوذلك مما ورد([sup][28])[/sup].
أما سؤال الله تعالى بجاه النبي r فلم يعرف عن السلف، وأنكره العلماء والمحققون وعدّوه من الأمور البدعية فيالدين، ولا ينبغي لأحد أن يسأل الله به وأحاديث سؤال الله بالمخلوقين أو بجاههمومنزلتهم واهية وموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها أو اعتمد عليها، إذإن سؤال الله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، فلا يحلف على الله بمخلوق ولايسأله بجاه مخلوق أو بذاته ومنزلته، وإنما يسأل الله بالأسباب التي تناسب إجابةالدعاء مما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة، كسؤال الله تعالى بأسمائه الحسنىوصفاته العلا، قال تعالى: ]وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُالْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[ [الأعراف: 180].
وبالعمل الصالح، قال تعالى: ]الَّذِينَ يَقُولُونَرَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[ [آل عمران: 16].
ومن السؤال بالأعمال الصالحة سؤال الثلاثة الذين آووا إلى الغار فسأل كلواحد منهم ربه بعمل عظيم أخلص فيه لله تعالى، لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاهمحبة تقتضي إجابة صاحبه: هذا سأل ببره لوالديه وهذا يسأل بعفته التامة وهذا سألبأمانته وإحسانه.
وكذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول وقت السحر: «اللهم أمرتني فأطعتكودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي».
وكسؤال الله بحق السائلين عليه وهو حق أوجبه على نفسه لهم كرمًا وتفضلاًكما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببًا لإجابة الدعاء قال تعالى: [font:1
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. منيهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهلا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الإسلام لم يُزرأ بأعظم مما أبدعه المنتسبون إليه، وما أحدثه الغُلاةمن المفتريات عليه؛ فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين وأساء ظنون غيرهم فيمابني عليه دين الإسلام - ولعَمر الحق - ما بني دين الإسلام إلا على أصلين:
الأصل الأول: أن لا يعبدإلا الله وحده لا شريك له.
الأصل الثاني: أن لا يعبدالله إلا بما شرع؛ قال تعالى: ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوالِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِرَبِّهِ أَحَدًا[ [الكهف: 110].
وقال تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلَّالِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[ [البينة: 5].
ولا مرية في أن الشريعة الإسلامية السمحة قد جاءت لمصالح العباد في عاجلتهموآجلتهم، فما خرج عن هذين الأصلين فهو البدعة؛ ولله در الإمام مالك رحمه اللهفكثيرًا ما كان ينشد:
وخير الأمور ما كان سنةً | | وشر الأمور المحدثات البدائع |
وكلما طال العهد بالمسلمين تجلت غربة الإسلام، والتبس الحق بالباطل،واختلطت الأمور، واستحكمت البدع والخرافات، وحار الناس في أمر دينهم؛ فإذا البدعةسُنَّة وإذا السٌّنة بدعة، وكادت الرؤيا تنعدم في ذلك الجو الغريب عن شريعةالإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
«وقد عرفنا من تاريخ الأديان والشرائع أن التحريف الابتداعي قد أصاب الأمةمن جهات ثلاث:
1- من جهة العقيدة: ومنها دخلالشرك، وعبادة غير الله، من دعاء واستعانة واستغاثة ولجوء إلى غيره فيما لا يجوزصرفه إلا إلى الله تعالى.
2- ومن جهة العبادة: ومنها دخلالتغيير بالزيادة أو النقص والتغيير في الكيفية.
3- ومن جهة الحلال والحرام: ومنهاحُرَّمَ الحلال واحتيل فحُلل الحرام.
وإذا أحصينا أسباب ذلك وجدنا أن أسباب البدع كثيرة يصعب حصرها أو تعدادهاومن أهم هذه الأسباب:
1- القول في الدين بغير علم.
2- ممارسة الجاهل لأمور التعليم والفتوى.
3- الجهل بالسُّنة ومكانتها في التشريع وعدم التمييز بين الأحاديث الصحيحةوغيرها الضعيفة والموضوعة.
4- اتباع الهوى والشهوات والتسليم لغير المعصوم صلى الله عليه وسلم.
5- اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة من المبتدعين وابتغاء تأويله من الجهلةالمتعالمين([sup][1])[/sup].
ويتساءل المسلم الحريص الغيور على دينه: كيف الطريق إلى الله؟ وكيف الطريقإلى السنة؟
ولا أجد إجابة أشفى مما أجاب به أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني حيث قال: «الطرقإلى الله كثيرة، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه: اتباع السنة قولاً وفعلاً وعزمًاوعقدًا ونية؛ لأن الله تعالى يقول: ]وَإِنْ تُطِيعُوهُتَهْتَدُوا[ [النور: 54] فقيل له: وكيف الطريق إلى السنة؟ فقال:مجانبة البدع واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ولزوم طريقالاقتداء»([sup][2])[/sup].
إذا تقرر ذلك: كانالتنبيه على المنكر وأطر الناس على اتباع الحق أمر واجب على المسلمين عامة وعلىالعلماء بخاصة.
نعم: يجب نشر العلم النافع: علم التوحيد وإصلاح العقيدةوالقضاء على العقائد الفاسدة والادعاءات الباطلة والعادات والتقاليد البالية التيشوهت معالم الدين وزيفت حقائقه ومعتقداته واستُميل بها قلوب كثير من العواموالجهال.
نعم: يجب أن ننهج في أمور ديننا ودنيانا على هدي من الكتابوالسنة وآثار سلف هذه الأمة فإن في ذلك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
نعم: يجب أن ندافع عن عقيدة التوحيد الخالص لننفي عنها عبثالعابثين ومكائد الضالين وتحريف المبتدعين وأباطيل الملحدين، لنكون في مأمن منغوائل هذه الآفات الكاسدة والضلالات الفتاكة وغيرها من معاول الهدم والتخريب التيشوهت جمال الإسلام وحضارته وحالت دون تقدم المسلمين.
وشعورًا بالمسئولية وبدافع من الغيرة الإسلامية رأيت أن أقدم هذه الصفحاتالمتواضعة تحت عنوان:
«آداب وأحكام زيارة المدينة المنورة»
ومن الأسباب التي جعلتني أكتب في هذا الموضوع هو الادعاء بأن زيارة قبرالنبي r تُنال بها الحاجات وهي الغاية القصوى التي شمَّر إليها المحبون، وتنافسفيها المتنافسون، ولمثلها فليعمل العاملون، وهذه العبارات تحمل إطراءً ومبالغةتتجاوز الحد الشرعي، كما سنقف على إيضاح ذلك إن شاء الله.
وقد ترتب على هذا الإطراء والمبالغة أن فئة من المسلمين أصبح معظم قصدهم منالحج زيارة قبر النبي r، ظنًّا منهم أن ذلك من تمام الحج وكماله، وربما انطلى هذا المفهوم على بعضالمنتسبين للعلم فقرروه في كتبهم ومناسكهم، بل وردّد بعض العلماء هذه العباراتالمتكلفة وما شاكلها من عبارات السجع والإطراء، وهم على جلالة قدرهم ورسوخ قدمهمفي العلم كابن حجر العسقلاني والقسطلاني – رحمهما الله – وغيرهما؛ وقد حذَّر السلفالصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين؛ فإنه ربما ظهرت فتطير فيالناس كل مطار فيعدونها دينًا، وهي ضد الدين، فتكون الزلة حجة في الدين.
روى الدارمي عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين([sup][3])[/sup].عافانا الله وإياهم وغفر زلتهم، وتجاوز عنهم، وعاملهم بقصدهم ونيتهم، إنه على كلشيء قدير.
تحريرًا في غرة ذي القعدة1419هـ.
بمدينة الرياض
وكتبه راجي عفو ربه المنان
صالح الغانم السَّدلان
زيارة قبر النبي r
إن شد الرحال لزيارة قبر النبي r، لم يعرفه السلف في كتبهم ولم يكتبوه في مؤلفاتهم، بل هو تعبير غريب لايعرفه السلف الصالح وإنما هو محض المبالغة والتكلف والإطراء المتجاوز للحد الشرعي.
وليس في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها موضوع تحت عنوان: «زيارةقبر النبي r». وإنما تكلم بذلك من تكلم من بعض المتأخرين، وحسبنا ما كان عليه سلف هذهالأمة وأئمتها.
ومعلوم أن الذاهب إلى هناك إنما يصل إلى مسجده صلىالله عليه وسلم والمسجد نفسه يشرع إتيانه سواء كان القبر هناك أو لم يكن، ثم يأتيإلى القبر فيزوره زيارة شرعية كما يزور عامة قبور المسلمين في بلدان الإسلامللاعتبار والدعاء لهم بدون سفر إليها أو قصد لها.
وعلى من أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص الثابتة ليعرف ما كانعليه السلف الصالح ومن سار على نهجهم وما قاله أئمة المسلمين، حتى لا يحرف الكلمعن مواضعه ويصرفه عن ظاهره بالعبارات المسجوعة المنمقة والكلمات المستنكرةالمردودة، فالوصول إلى مسجده والصلاة فيه أولاً، ثم الزيارة للقبر مغمورة فيه، ومنادعى خلاف ذلك فعليه البيان مع البرهان.
ولو سلَّمنا جدلاً أن زيارة قبر النبي r بشد الرحل إليه مندوب أو واجب وأنها الغاية القصوى وهي من أعظم القرباتوأرجى الطاعات ... إلخ. فأين الدليل على ذلك؟ ثم من هم الذين فعلوا ذلك؟ هل همأصحاب رسول الله r والأئمة من التابعين وأتباعهم؟ أم هم أناس جانبوا العلم والتحقيق، واكتفوابما يأخذون عن مشائخهم، وما يكتبون لهم في أورادهم؟!
إن كان الأول فلا دليل عليه لأن أئمة المسلمين من السلف والخلف لا يتكلمونفي الدين بأن هذا واجب أو مندوب أو سنة أو مستحب أو حلال أو حرام أو مباح إلابدليل شرعي من الكتاب والسنة وما دلا عليه. ولم يحصل منهم كلامٌ في ذلك، ومن نسبإليهم شيئًا من ذلك فليبرزه.
وإن كان الثاني فليسوا بحجة.
وقد كره الإمام مالك رحمه الله وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي r، كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم،ومالك رحمه الله من أعلم الناس بهذا؛ لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابةبالمدينة ولهذا كره لأهل المدينة كلما دخل إنسان مسجد رسول الله r أن يأتي قبر النبي r؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلونه، وقال: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلحأولها. وقال القاضي عياض: وسر كراهة مالك لذلك لإضافته إلى قبر النبي r.
وعن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله r قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذواقبور أنبيائهم مساجد»([sup][4])[/sup].
فالتنافس والتشمير فيما وافق الشرع وسار على النهج وكيف يُبتغى الفضل فيمخالفة الصواب!؟
لا يخفى أن زيارته r في حياته فيها من الفوائد التي لا توجد في الوصول إليه r بعد مماته: منها النظر إلى ذاته الشريفة وتعلُّم أحكام الشريعة، والجهادبين يديه وغير ذلك.
أما بعد وفاته r فيجب علينا متابعته والتمسك بسنته باطنًا وظاهرًا وتعظيمه وتوقيره ومحبتهوموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته،وهذا هو المشروع في الدين، بل إن كثيرًا من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية،وجمع من الحنابلة وأهل الحديث ذهبوا إلى عدم مشروعية زيارة قبره r، وذلك بالسفر وشد الرحل.
وكل الأحاديث التي من فضل زيارة قبره r موضوعة مكذوبة واهية، لا يثبت بها حكم شرعي،وبمثلها لا يصلح الاحتجاج، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيء، ولا أصحابالصحيح كالبخاري ومسلم، ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي، ولا الأئمة من أهلالمسانيد كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالكوالشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأمثالهم، بل عامة هذهالأحاديث مما يُعلَمُ أنها كذب موضوعة، ولم يثبت عنه r حديث واحد في زيارة قبره([sup][5])[/sup].
بيان درجة الأحاديث الواردة فيزيارة
قبر الرسول r وحكم الاحتجاج بها
1- «من حجفزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» وله ألفاظ أخرى تأتي.
2- «من حج فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي».
3- «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».
4- «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».
5- «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني».
6- «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن مات بأحد الحرمين بعث منالآمنين يوم القيامة».
7- «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زارني حتى ينتهي إلىقبري كنت له يوم القيامة شهيدًا أو قال شفيعًا».
8- «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي».
9- «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني».
وما نقلناه هنا من الروايات هو معظمها لا كلها، وبعض الروايات جاءت بالنقصوبعضها بالزيادة إلا أن معانيها كلها تتضمن الحث على زيارة قبر النبي r بعد موته ومساواة من زاره في مماته بمن زاره في حياته، وأنى ذلك؟
وهذه الأحاديث لا يجوز الاحتجاج بها، ولا يصلح الاعتماد عليها فإنها أحاديثمنكرة المتن، ساقطة الإسناد، لم يصححها أحد من الحفاظ، ولا احتج بها أحد منالأئمة، بل ضعفوها وطعنوا فيها، وذكر بعضهم أنها من الأحاديث الموضوعة والأخبارالمكذوبة، ولم يقل بها أحد ذاق طعم الحديث. ولا يقويها أنها رويت من طرق متعددةوزيادات مختلفة، بل هذه الزيادات تزيده إيهامًا وتلبيسًا وخبطًا وتخليطًا، ووجوههكلها التي رويت بها لا يرتفع بها عن درجة الضعف والسقوط، ولا ينهض إلى رتبة تقتضيالاعتبار والاستشهاد لظلمة إسناده وجهالة رواته وضعف بعضهم واختلاطه واضطرابحديثه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأحاديث زيارة قبره r كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاحوالسنن شيئًا منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهم. وأجودحديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه، وهو: «منزارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ...» الحديث.
فإن هذا كذبٌ ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمنًابه كان من أصحابه لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه. والواحد بعدالصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصياموالصلاة، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين؟ بل ولا شُرِعَ السفر إليه، بل هومنهي عنه»([sup][6])[/sup].
فجعل زيارة قبره r كزيارته حيًّا لم يقل به أحد من المسلمين، لأن من زاره حيًّا حصل لهبمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك، ما لا يحصل لمن لم يشاهدهولم يسمع كلامه، وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته بمنزلةرؤيته ومشاهدته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد منأصحابه! ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل.
فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعةفي جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرسول التعظيم التام والمحبةالتامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل مكان.
إذا تقرر ذلك: فإن زيارة الرسول r في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر لزيارته في حج أوغيره مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، ولا تحط الأوزار أو تنور القلوب بالمعارفوالأسرار.
إن المقصود بجميع العبادات أن يكون الدين كله لله، وذلك ما جاء به القرآنودعا إليه الرسل كلهم، ولذلك خلق الله الخلق. قال تعالى: ]وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[
[الذاريات: 56]، أي: يوحدون، ويخلصون العمل لله وحده، وحق الرسول r علينا إنما يتمثل في اتباعه وطاعته ومحبته، وإكثار الصلاة والسلام عليه فيكل مكان وزمان، وعدم الركون إلى تأويلات الجهلة وانتحال المبطلين المجاهرينبالباطل والمغالين في أمور تُشْمِتُ أعداء الإسلام فينا بما يأتون به من أحاديثمكذوبة ويتمسكون به من خيوط واهية في أمور تمس عقيدة المسلم، وإذن فلا تقبل مثلهذه الأحاديث البتة. والله يضل من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
قال الحافظ ابن حجر: أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة([sup][7])[/sup].ولو جاء عن النبي r الترغيب في زيارة قبره أو كثرة الاختلاف إليه والحث عليه لكان أصحاب رسولالله r والتابعون لهم بإحسان أحق الناس بالعكوف على قبره وكثرة انتيابه والازدحامعنده وتقبيله والتمسح به، وكانوا أشد الناس ترغيبًا للأمة في ذلك، بل المحفوظ عنهمالزجر عن مثل ذلك والنهي عنه.
روى سعيد بن منصور في «سننه» عن عبد العزيز بن محمد قال: أخبرني سهيل بنأبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو فيبيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عندالقبر؟ فقلت: سلمت على النبي r فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله r قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهوداتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». ماأنتم ومن بالأندلس إلا سواء ([sup][8])[/sup].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فانظر هذه السُّنَّة كيف مخرجها منأهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله r قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا لها أضبط»([sup][9])[/sup].
* * *
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
إنَّ شد الرحال على وجه القربة أمرٌ توفيقي ليس لأحد أن يأمر به ولا يدعوإليه بل ذلك خاص لمن له هذا الحق، وهو رسول الله r.
فشد الرحال إلى بقاع مخصصة من الأرض على وجه العبادة والتقرب إلى اللهمحصورٌ بقوله r: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذاوالمسجد الأقصى».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن كان قصده بالسفر زيارة قبره r دون الصلاة في مسجده فهذه المسألة فيها خلاف، والصحيح أن زيارة قبره r ليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمرٌ في الكتاب ولا فيالسُّنَّة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم، فصلىالله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء: أن شد الرحل لزيارة قبره r غير مشروع ولا مأمور به، بل المشروع والمأمور به شد الرحال إلى ثلاثةمساجد. في قوله r: «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»([sup][10])[/sup].
إذنالتقرب إلى الله عز وجل بما ليس بطاعة هو معصية؛ لأنه نهي عن ذلك، والنهي يقتضيالتحريم.
وقد نصالعلماء على أن من نَذَر السفر لزيارة قبر النبي r لا يجبعليه الوفاء؛ لأن النذر إنما يجب الوفاء به إذا كان في طاعة، ونذر زيارة قبر النبيr وغيرهمن الأنبياء والصالحين والأولياء معصية، لذا لم يجب الوفاء بها، وأيضًا نص بعض أهلالعلم كابن عقيل وغيره على أن المسافر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين لا يقصرالصلاة في هذا السفر، لأنه معصية لكونه معتقدًا أنها طاعة وليس بطاعة والتقرب إلىالله عز وجل بما ليس بطاعة هو معصية ([sup][11])[/sup].
فمن رخصفي زيارة القبور من العلماء – كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وتقي الدين السبكيوابن حجر الهيثمي وغيرهم – فقد استدلوا بما سبق من الأحاديث التي ثبت وضعها وكذبهاهي وغيرها مما رواه الطبراني وغيره، لهذا لم يحتج بها أحد من السلف والأئمة،وبمثلها لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، فالله المستعان.
والصلاةوالسلام على رسول الله r مأموربها في كل حين وآن، ويجب ذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، ويُسن عند تكرار اسمهعليه الصلاة والسلام، كما أنه ركن في التشهد في الصلاة.
إن محبتهصلى الله عليه وسلم تتحقق في اتباع أمره واجتناب نهيه قال تعالى: ]قُلْ إِنْكُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[[آل عمران: 31].
ومحبته r تتحققفي أمور أربعة:
1- طاعتهفيما أمر.
2-تصديقه فيما أخبر.
3-اجتناب ما نهى عنه وزجر.
4- أن لايعبد الله إلا بما شرع.
* * *
آداب دخول المسجد
والسلام على النبي r
روى الإمام أحمد في «مسنده» وأصحاب «السنن» عن فاطمة بنت رسول الله r: «أن النبي r قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: بسم الله والصلاة والسلام على رسولالله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك». وإذا خرج قال: «بسم اللهوالصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك»([sup][12])[/sup].
فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد والخروج منه، وفي نفس كل صلاة، وهذاأفضل وأنفع من الصلاة عليه عند قبره وأدوم، وهذه مصلحة محضة لا مفسدة فيها، يرضىالله عنها ويوصل نفعها إلى رسول الله r وإلى المؤمنين، وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول كل مسجد والخروج منه.
يبدأ بعد دخوله المسجد بصلاة ركعتين تحية المسجد. لما روى البخاري في «صحيحه»عن أبي قتادة السلمي أن رسول الله r قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»([sup][13])[/sup].
ولما قررناه من أن قصد زيارة قبر النبي r ليست مشروعة، وإنما المشروع زيارة المسجد فيبدأ بتحيته.
وإن تيسر له صلاَّهما في الروضة الشريفة لقوله r: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي»([sup][14])[/sup].
فحيث صلاهما في أي مكان من المسجد تحقق بذلك فعل السنة المطلوبة عند دخولالمسجد، ولكن في الروضة أفضل، وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروذي، ونقلعن مالك أنه يستحب التطوع في موضع صلاة النبي r، وقيل: لا يتعين لذلك موضع من المسجد وهو الأصح إلا إذا كان للمصلي غرضللوصول إلى الصف الأول، وأما الفرض فيصليه مع الإمام بلا ريب حرصًا على الصف الأول([sup][15])[/sup].
وبعد أن يصلي تحية المسجد أو يصلي الفريضة يذهب إلى الحجرة الشريفة يُسلمعلى النبي r مستقبل الحجرة، والقبلة وراءه عند أكثر العلماء، وعند أصحاب أبي حنيفة لايستقبل القبر وقت السلام على النبي r.
أما الدعاء: فلم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يقف عند القبر للدعاءلنفسه، فإن هذا بدعة. وإذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة وجعل القبروراءه ودعا.
ولم يقل أحد من العلماء أنه يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره، بل إن الصحابةكانوا يدعون في مسجده، ولا يقصدون الدعاء عند الحجرة([sup][16])[/sup]، لا مستقبلي القبر ولامستدبريه. والحكاية المروية عن مالك أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاءكذب على مالك رحمه الله.
والنبي r يُبَلَّغ سلام من سلَّم عليه، تبلغه إياه الملائكة، لا أنه يسمع ذلكبأذنيه كما كان في حال حياته. إذ ليس لأحد من البشر بعد موته أن يسمع أصوات العبادمن قرب أو بُعد، فضلاً عن أن يعلم نياتهم وخواطرهم إلا إذا كان ذلك السماع معجزةللنبي r وهذا يتوقف على الدليل المعين لذلك، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قولالنصارى الذين يقولون إن المسيح هو الله وأنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهمويستجيب دعاءهم، لا بل الذي يسمع السر والنجوى إنما هو الله رب العالمين.
قال تعالى: ]أَمْ يَحْسَبُونَأَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْيَكْتُبُونَ[ [الزخرف: 80].
ودعوى أن النبي r يعلم ويسمع ويعرف النيات والخواطر والأحوال بعد موته غلو غير مقبول وإطراءللنبي r وتعظيم له ورفع له فوق منزلته، فالنبي r يوصف بأنه ميت وجسده باق وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياءولا يتعدى الأمر ذلك، كأن يوصف النبي r بأنه يسمع أو يعلم أو يطلع على النيات والخواطر وغير ذلك من خصائصالربوبية.
وإذا كان النبي r في حياته بشرًا يوحى إليه ولا يعلم الغيب إلا بإعلام الله له فكيف وهو قدمات، فبأي دليل يثبت من شذ وخلط بين حق الله ورسوله r ولم يميز بين ما هو حق لله وما هو حق للرسول r؟
نعم: إن النبي r قد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيدولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة، ولكن مع هذا فإن الله سبحانه وتعالى قدنهانا عن أن نشرك به أو أن نرفع رسوله فوق منزلته التي أنزله إياها بالغلو فيتعظيمه.
قال تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا أَنَابَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْكَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْبِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[ [الكهف:110].
وأنه لا يعلم الغيب إلا الله: قال تعالى: ]قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَايَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[ [النمل: 65].
ولا يطلع على النيات والخواطر سوى اللطيف الخبير الذي ]يَعْلَمُالسِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُالْحُسْنَى[ [طه: 7، 8]، قال تعالى: ]قُلْ إِنْتُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَافِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [آل عمران: 29].
وقال الله تعالى: ]يَعْلَمُ مَا فِيالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُعَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ [التغابن: 4].
فالرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده، والتوكل عليه وحده، ويمتنع أن يكونالمخلوق مثل الخالق سبحانه وتعالى، فمن نفى عن مخلوق – ملك أو نبي أو غيرهما – ماكان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقًّا واجب القبول، ومن أثبت ذلككان إثباته إطراءً للمخلوق وزيادة في التعظيم على ما يستحقه، نعوذ بالله من التكلفوالهوى والقول على الله بغير علم، ونعوذ بالله أن نصف الرسول r بما ليس فيه فنكون من الهالكين ([sup][17])[/sup].
وأما حضور القلب وغض الطرف والإطراق والسكون والانكسار عند السلام علىالنبي r كما يزعم المتصوفة فهذه أحوال تتطلب حال العبادة كالصلاة والوقوف بعرفة،فإن العبد يستشعر جلال مولاه ووقوفه بين يديه ومناجاته لربه الذي يعلم ما تكنهالأنفس وما تخفيه الصدور وكون العبد يستحضر هذه الأحوال عند قبر الرسول r دعوى من غير دليل ومبالغة بل وغلو في تعظيم الرسول r، وكل ما يطلب من المسلم لرسول الله r إنما هو الأدب بحيث لا يرفع صوته هناك ولا يأت بمنافٍ لحال ما هو فيه منذكر الموت والقبر وما لكل حي مصيره.
وقد أمر الله تعالى بالتأدب بين يدي رسول الله r في حياته فقال: ]يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَاتَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَأَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[ [الحجرات: 2].
ومن تأمل القرآن الكريم والسُّنَّة الصحيحة الثابتة عن رسول الله r عرف ما يجب من الأدب، والتعظيم لرسول الله r وفعل ما أمر به. قال r: «لا تطروني كما تطري النصارى عيسى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد اللهورسوله»([sup][18])[/sup].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدناوخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله r: «يا أيها الناس: عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنعبد الله: عبدُ الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللهعز وجل»([sup][19])[/sup].
فتعظيم الرسول r أن تُطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم عليه غيره، وهذا هو الذي يقرهالشرع ويأمر به ويثني على فاعله، أما أن نعظمه عند قبره بغض الطرف وسكون الجوارحوالإطراق ...إلخ. فهذا في الحقيقة غلو في تعظيمه ومعاملة له بضد ما أمر به ودعاءإلى ما حذر منه وعصيان ومخالفة لأمره r، ومن يفعله مبغوض لا محبوب، معاقب لا مثاب.
فعلى المسلم أن يترسم هدي رسول الله r في كل ما يقول ويفعل، ومن يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل الله فما له منهاد.
وكان العمل الشائع لدى الصحابة – الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين –أنهم يدخلون مسجده ويصلون ويسلمون عليه في الصلاة، ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لامن داخل الحجرة ولا من خارجها، لا لسلام ولا لصلاة ولا غير ذلك من حقوقه المأموربها في كل مكان ([sup][20])[/sup].
وكان ابن عمر وحده هو الذي يذهب إلى القبر إذا قدم من سفر، فيقول: السلامعليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت.
ولم يتابعه عليه أحد من الصحابة ([sup][21])[/sup]، فتأمل كيف أن هذا السلامالمختصر، والذي هو في غاية الأدب لم يكن أحد يفعله من الصحابة غير ابن عمر، وهذامنهم مبالغة في سد يفضي إلى البدعة والغلو فيه r.
وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي r مع كثرة الصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك وقال: هو بدعة لم يفعلهاالسلف، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها([sup][22])[/sup].
فعلى المسلم أن يعرف ما ورد عن السلف رضوان الله عليهم من الصلاة والسلامعلى رسول الله في الصلاة وخارجها دون إفراط أو تفريط والله الهادي إلى سواءالسبيل.
ثم السلام على أبي بكر الصديق: تنتقل عن يمينه r قدر ذراع وتسلم على أبي بكر الصديق وتقول: السلام عليك يا خليفة رسول اللهr.
ثم السلام على عمر بن الخطاب: تنتقل عن يمين أبي بكر الصديق رضي الله عنهقدر ذراع وتقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
والسلام على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إنما هو من جنسالسلام على سائر الأموات، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسلم على رسول الله r وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر وكان يقول: السلام عليك يا رسول الله،السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف.
ومن ثم رأى من رأى من العلماء هذا جائزًا اقتداء بابن عمر – رضي الله عنهما– في السلام بهذه الصيغة ([sup][23])[/sup].
أما من يدعو ويقول: اللهم وارض عن أبي بكر وعمر وارض عنا به، فهذا خلطووهم، وخطأ بين، وجهل ذريع، وقلب للحقائق بغير علم ولا دليل. فإنه لا واسطة بينالله وبين أحد من خلقه. ولا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بذاته ولا بمنزلتهولا بعمله، ولا سؤال الله به.
ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله ويتوسل إليه إلا بما شرع من سؤاله بأسمائهالحسنى وصفاته العُلا وبالأعمال الصالحة التي شرعها لعباده وبدعاء الأحياءالصالحين، ولم يعرف قط أن الصديق أبا بكر وعمر بن الخطاب وأكابر الصحابة رضوانالله عليهم سألوا النبي r أن يدعو لهم وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين.
نعم: دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به ما دام في حياته لورودما يدل عليه. أما أن يسأل المؤمن الله تعالى بحق فلان أو بذاته أو بجاهه بعد موتهفهذا من أعظم أنواع البدع المحرمة التي سد الله ورسوله ذريعتها وينبغي أن يكتفيبالسلام المشروع([sup][24])[/sup].
لم يكن أحد من السلف يأتي على قبر النبي r لأجل الدعاء عنده بعد السلام عليه ولا كان الصحابة رضوان الله عليهميقصدون الدعاء عند قبره لا مستقبلي القبلة ولا مستدبريها. ولم يقل أحد من العلماء أنالدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره r أو متوجهًا إلى القبلة عند قبره r، إلا ما ذكره بعض أهل العلم في كتبهم من استحباب استقبال القبلة ويجعلالحجرة عن يساره ويدعو قريبًا من الحجرة أو بعدها.
هذا لا دليل عليه من كتاب ولا من سُنَّة، والأولى للمسلم إذا أراد أن يصيبالسنة: أن يسلم على النبي r وعلى صاحبيه ثم ينصرف ولا يقبل مستقبل القبلة ولا مستقبل القبر للدعاء، بلنص أئمة السلف على أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء مطلقًا.
قال الإمام مالك فيما روي عنه: لا أرى أن يقف عند قبر النبي r يدعو ولكن يسلم ويمضي كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن عقيل، وابن الجوزي: يكره قصد القبور للدعاء.
وقال مالك: هو بدعة لم يفعلها السلف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يكره قصد القبور للدعاء ووقوفه عندها أيضًاللدعاء ([sup][25])[/sup].
وهكذا حمد الله تعالى والصلاة على النبي r وإكثار الدعاء والتضرع وتجديد التوبة عند قبره عليه الصلاة والسلام لميثبت عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، وإنما المأثور عن السلفوالأئمة أنهم يستحبون عند قبره r ما هو من جنس الدعاء له عليه الصلاة والسلام والتحية كالصلاة والسلام عليهفقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لم يكن في الصحابة والتابعينوالأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياءوالصالحين لا مطلقًا ولا معينًا. وليس فيهم من قال: إن دعاء الإنسان عند قبورالأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة ولا أن الصلاة في تلك البقعةأفضل من الصلاة في غيرها ولا فيهم من كان يتحرى الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور.
ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ودعا له»([sup][26])[/sup].
قلت: والمتعين ترك ذلك والإعراض عنه؛ لأنه يفتح باب بدعة وفتنة.
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له r سؤال تطلب فيه الوسيلة وبعثه المقام المحمود([sup][27])[/sup].
ثم إن استقبال القبلة أو استدبارها للدعاء وتجديد التوبة والتضرع ليس عليهدليل ولا هذا الموضوع من مواضع إجابة الدعاء، لأن مواضع إجابة الدعوة توقيفية مثلالدعاء في السجود وآخر الليل وأدبار الصلوات وبعد تلاوة القرآن الكريم وبعد النداءوبين الأذان والإقامة وعند نزول الغيث ومجالس الذكر واجتماع المسلمين ودعاءالمسلمين لأخيه يظهر الغيب وفي ليلة القدر ويوم عرفة وليلة الجمعة ويومها، ونحوذلك مما ورد([sup][28])[/sup].
أما سؤال الله تعالى بجاه النبي r فلم يعرف عن السلف، وأنكره العلماء والمحققون وعدّوه من الأمور البدعية فيالدين، ولا ينبغي لأحد أن يسأل الله به وأحاديث سؤال الله بالمخلوقين أو بجاههمومنزلتهم واهية وموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها أو اعتمد عليها، إذإن سؤال الله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء، فلا يحلف على الله بمخلوق ولايسأله بجاه مخلوق أو بذاته ومنزلته، وإنما يسأل الله بالأسباب التي تناسب إجابةالدعاء مما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة، كسؤال الله تعالى بأسمائه الحسنىوصفاته العلا، قال تعالى: ]وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُالْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[ [الأعراف: 180].
وبالعمل الصالح، قال تعالى: ]الَّذِينَ يَقُولُونَرَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[ [آل عمران: 16].
ومن السؤال بالأعمال الصالحة سؤال الثلاثة الذين آووا إلى الغار فسأل كلواحد منهم ربه بعمل عظيم أخلص فيه لله تعالى، لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاهمحبة تقتضي إجابة صاحبه: هذا سأل ببره لوالديه وهذا يسأل بعفته التامة وهذا سألبأمانته وإحسانه.
وكذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول وقت السحر: «اللهم أمرتني فأطعتكودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي».
وكسؤال الله بحق السائلين عليه وهو حق أوجبه على نفسه لهم كرمًا وتفضلاًكما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببًا لإجابة الدعاء قال تعالى: [font:1
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin