آثارصفة الرحمة
* بقلم / ماجد بن أحمدالصغير
الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا اللهوحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ما شاء كان وما لم يشألم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد . وأشهد أن محمداًعبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه .
أما بعد :
فإن من عرف ربه سبحانه وتعالى بالرحمة الواسعة لابدأن يحصل له عدد من الخيرات والثمرات والآثـار ...
ومن تلك الآثــار :
أنه على قدر حظ الإنسان من هذا الخلق الكريم ترتفعدرجته عند الله ؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أرحم الناس ، وكان خاتمهموسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم نصيباً من هذا الخلق حتى كانت رسالته رحمةللعالمين قال الله سبحانه (وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )، (فبما رحمة من الله لنت وَلَوْكُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) . وقد لازم هذا الخلق في أشد الأوقات، فلما آذاه أهل مكةوكذبوه وأخرجه أهل الطائف ورموه بالحجارة ؛ خرج كسير النفس ، مجروح الفؤاد يتلمسالفرج، جاءه ملك الجبال وعرض عليه إهلاكهم فقال صلى الله عليه وسلم : (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركبه شيئا)). [1]
رحمة لم تعرف البشرية نظيراً لها . والمؤمن الصادق له نصيبمن هذه الصفة على قدر حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه له وأولى الناسبالرحمة الوالدين خاصة عند الكبر : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقل ربارحمهما كما ربياني صغيراً )، ثمضعفاء المسلمين أيتاماً وأرامل ، فرحمة هؤلاء باب من أوسع الأبواب التي تنال بهارحمة الله . وإذا كانت امرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته شربة ماء فكيف بالإنسانالمؤمن الكريم على الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( غفر لامرأة مومسةمرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعتله من الماء فغفر لها بذلك ) [2]. لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيم القلب يرقللضعفاء ويرحم حتى الدواب والحيوانات ويوصي بها ، فقد جاء رجل إلى النبي صلى اللهعليه وسلم فقال يا رسول الله : ( إنيلأرحم الشاة أن أذبحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن رحمتها رحمك الله ). [3]
ومن الآثـار:
أن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل ، وتثير مكنونالفطرة ، وتبعث على صالح العمل ، وتغلق أبواب الخوف واليأس ، وتشعر المؤمن بالأمنوالأمان ؛ لأنه سبحانه الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ، ولم يجعل في الدنيا إلاجزءاً يسيراً من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون ، وبه ترفع الدابة حافرهاعن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه [4].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلىالله عليه وسلم يقول : (جَعَلَالله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَجُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِيَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَاخَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ )[5]. وفيرواية قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّاللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَعِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْرَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِمِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُبِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)[6].
ومن الآثــار :
الرحمة بالمخطئين والمذنبين بالأخذ بأيديهم إلى طريقالله بالموعظة الحسنة باللطف لا بالعنف والتعامل معهم على أنهم غرقى محتاجون منينتشلهم فلا يتركهم يتعرضون لعذاب الله . ومن ثَّمّ النظر إليهم بعين الرحمة لاالشدة والنقمة ، ومعاملتهم معاملة الرُحماء لا معاملة أهل الكبر والازدراء والخيلاء.
ومن الآثــار :
أن المؤمن مع تقربه إلى الله بكل عمل ، وتوقيه لكلذنب إلا أن قلبه خائف وجل من الآخرة ; متطلع إلى رحمة ربه وفضله . فهو على كلأحواله متطلع إلى رحمة الله وفضله ;مع مراقبته لله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة .(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِسَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْيَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُأُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) .والأخيار من خلق الله ، من الملائكة ، أو الجن ، أو الإنس يحاولون بكل طريق أنيتقربوا إلى الله ، وأن يتسابقوا إلى رضاه ، يرجون رحمته ويخافون عذابه ، وقد كانبعضهم يدعو عزيراً ويأمله , وبعضهم يدعو عيسى ويرجوه ، وبعضهم يدعو الملائكةويعبدهم ويسألهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فأخبر الله عن أولئك جميعاً : بأنأقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشىعذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف . ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُالْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُإِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء:57] حتى أولئك الذين يؤذون في سبيله هم على رجاء الرحمة لا علىيقين منها ; ولا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئكيرجون رحمة الله ,والله غفور رحيم ) ...و إذا رجا المؤمن رحمة الله فإن الله لا يخيبه أبدا . . ولقدسمع أولئك النفر المخلصمنالمؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا ,حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة ..)[7] .
ومن الآثــار :
أن ينقطع المؤمن إلى الله تعالى وأن يعرض عما سواه عزوجل فيرتاح باله [8] ؛ فإن الرحمة بيد الله وحده فـ (ما يفتح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَلَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُالْحَكِيمُ ) . وحين تستقر هذه العقيدة فيقلب إنسان تتحول تصرفاته وتعتدل موازينه ؛ لأنها تقطعه عن كل قوة في السماواتوالأرض وتصله بقوة الله . وتغنيه عن كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله .
يجد هذه الرحمة من يفتحها الله له فيكل شيء ، وفي كلحال , وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ,ويجدها فيما حوله , حيثما كان , وكيفما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنهفي كل شيء , وفي كل وضع , وفي كل مكان ، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامةالوجدان والرضوان !
وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هيبذاتها نقمة . وما من محنة –تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينامالإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكتعنه - فإذا هو شوك القتاد .
ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادةويسر . ويعالج أيسر الأمور – وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر . ويخوض بهاالمخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هيمهلكة وبوار !يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغدفي الدنياوزادإلى الآخرة . ويمسك رحمته , فإذا هو مثار قلق وخوف .
يمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة فيالحياة ومصدر فرح واستمتاع ,ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء , وسهر بالليل وتعب بالنهار !
ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمةوحياة طيبة , والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه اللهعلى الصحيح القوي , فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح , ويدخر السوءليوم الحساب !
ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداةإصلاح , ومصدر أمن ,ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك اللهرحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما , ومصدر طغيان وبغي بهما , ومثارحقد وموجدة على صاحبه مالا يقر له معهما قرار , ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ,ويدخربهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار !والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقامالطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليلمن المعرفة يثمر وينفع , وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعلالله فيه السعادة .
ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال.
وجدها إبراهيم – عليه السلام - في النار .
ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها فيالسجن .
ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلماتثلاث .
ووجدها موسى – عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد منكل قوة ومن كل حراسة , كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .
ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصوروالدور . فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته).
ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغاروالقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . .
ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها .منقطعاً عن كل شبهة في قوة , وعن كل مظنة في رحمة , قاصداً باب الله وحده دونالأبواب [9].
ومن الآثــار:
إن المؤمن إذا علم أن الله إذا فتح أبواب رحمته لأحدفلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . كانت مخافته من الله . ورجاء ه في الله.. إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل .. يقدربلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك. (ما يفتح الله للناس من رحمةفلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).
لو استقر هذا المعنى في قلب إنسان لصمد كالطودللأحداث والأشخاص والقوى والقيم . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحونرحمة الله حين يمسكها , ولا يمسكونها حين يفتحها . . (وهو العزيز الحكيم). .
إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آيةمن آياته . آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشقطريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة [10].
قال عامر بن عبد قيس : أربع آيات من كتاب الله إذاقرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لهمن بعده ) (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادلفضله ) ( وسيجعل الله بعد عسر يسرا الطلاق) ( وما من دابة في الأرضإلا على الله رزقها هود ) [11] .
اللهم لك الحمد منزل القرآن هداية وزكاة وشفاء ورحمةللمؤمنين ...« لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمةً ، إنك أنتالوهاب » ، « رحمتك نرجو ، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين » .
* /كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
17/4/1428
[1] رواه مسلم رقم (1420).
[2] متفق عليه : رواه البخاري ح 3143 و اللفظ له . ورواهمسلم ح 2245 بنحوه . كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه .
[3] رواه الحاكم ح 7562 . والحديث صححه العلامة الألباني فيصحيح الترغيب والترهيب 2/ 274 ح 2264.
[4] ينظر: فتح الباري 13/358 في معنى قول الحليمي : الرحمنهو مزيح العلل ، أسماء الله الثابتة في الكتاب والسنة ، للرضواني 2/7 ، بتصرفواختصار .
[5] رواه البخاري ح 5654 .
[6] رواه البخاري ح 6104 .
[7] ينظر: في ظلال القرآن تفسير آية الزمر رقم :9 ، والإسراءرقم: 57 ، البقرة 218 بتصرف كثير .
[8] ينظر : روح المعاني ، للألوسي 22 / 165 .بتصرف .
[9] ينظر : في ظلال القرآن ، تفسير قوله تعالى (مايفتح الله للناس من رحمة ..) سورة فاطر ، آية رقم : 2 .
[10] المرجع السابق نفس الموضع .
[11] الدر المنثور ، للسيوطي 7 / 5 .
* بقلم / ماجد بن أحمدالصغير
الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا اللهوحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ما شاء كان وما لم يشألم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد . وأشهد أن محمداًعبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه .
أما بعد :
فإن من عرف ربه سبحانه وتعالى بالرحمة الواسعة لابدأن يحصل له عدد من الخيرات والثمرات والآثـار ...
ومن تلك الآثــار :
أنه على قدر حظ الإنسان من هذا الخلق الكريم ترتفعدرجته عند الله ؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام أرحم الناس ، وكان خاتمهموسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم أوفرهم نصيباً من هذا الخلق حتى كانت رسالته رحمةللعالمين قال الله سبحانه (وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )، (فبما رحمة من الله لنت وَلَوْكُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) . وقد لازم هذا الخلق في أشد الأوقات، فلما آذاه أهل مكةوكذبوه وأخرجه أهل الطائف ورموه بالحجارة ؛ خرج كسير النفس ، مجروح الفؤاد يتلمسالفرج، جاءه ملك الجبال وعرض عليه إهلاكهم فقال صلى الله عليه وسلم : (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركبه شيئا)). [1]
رحمة لم تعرف البشرية نظيراً لها . والمؤمن الصادق له نصيبمن هذه الصفة على قدر حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه له وأولى الناسبالرحمة الوالدين خاصة عند الكبر : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقل ربارحمهما كما ربياني صغيراً )، ثمضعفاء المسلمين أيتاماً وأرامل ، فرحمة هؤلاء باب من أوسع الأبواب التي تنال بهارحمة الله . وإذا كانت امرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته شربة ماء فكيف بالإنسانالمؤمن الكريم على الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( غفر لامرأة مومسةمرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعتله من الماء فغفر لها بذلك ) [2]. لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيم القلب يرقللضعفاء ويرحم حتى الدواب والحيوانات ويوصي بها ، فقد جاء رجل إلى النبي صلى اللهعليه وسلم فقال يا رسول الله : ( إنيلأرحم الشاة أن أذبحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن رحمتها رحمك الله ). [3]
ومن الآثـار:
أن الرحمة تفتح أبواب الرجاء والأمل ، وتثير مكنونالفطرة ، وتبعث على صالح العمل ، وتغلق أبواب الخوف واليأس ، وتشعر المؤمن بالأمنوالأمان ؛ لأنه سبحانه الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ، ولم يجعل في الدنيا إلاجزءاً يسيراً من واسع رحمته يتراحم به الناس ويتعاطفون ، وبه ترفع الدابة حافرهاعن ولدها رحمة وخشية أن تصيبه [4].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلىالله عليه وسلم يقول : (جَعَلَالله الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَجُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِيَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَاخَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ )[5]. وفيرواية قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّاللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَعِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْرَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِمِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُبِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)[6].
ومن الآثــار :
الرحمة بالمخطئين والمذنبين بالأخذ بأيديهم إلى طريقالله بالموعظة الحسنة باللطف لا بالعنف والتعامل معهم على أنهم غرقى محتاجون منينتشلهم فلا يتركهم يتعرضون لعذاب الله . ومن ثَّمّ النظر إليهم بعين الرحمة لاالشدة والنقمة ، ومعاملتهم معاملة الرُحماء لا معاملة أهل الكبر والازدراء والخيلاء.
ومن الآثــار :
أن المؤمن مع تقربه إلى الله بكل عمل ، وتوقيه لكلذنب إلا أن قلبه خائف وجل من الآخرة ; متطلع إلى رحمة ربه وفضله . فهو على كلأحواله متطلع إلى رحمة الله وفضله ;مع مراقبته لله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة .(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِسَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْيَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُأُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9) .والأخيار من خلق الله ، من الملائكة ، أو الجن ، أو الإنس يحاولون بكل طريق أنيتقربوا إلى الله ، وأن يتسابقوا إلى رضاه ، يرجون رحمته ويخافون عذابه ، وقد كانبعضهم يدعو عزيراً ويأمله , وبعضهم يدعو عيسى ويرجوه ، وبعضهم يدعو الملائكةويعبدهم ويسألهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فأخبر الله عن أولئك جميعاً : بأنأقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشىعذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف . ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُالْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُإِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء:57] حتى أولئك الذين يؤذون في سبيله هم على رجاء الرحمة لا علىيقين منها ; ولا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئكيرجون رحمة الله ,والله غفور رحيم ) ...و إذا رجا المؤمن رحمة الله فإن الله لا يخيبه أبدا . . ولقدسمع أولئك النفر المخلصمنالمؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا ,حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة ..)[7] .
ومن الآثــار :
أن ينقطع المؤمن إلى الله تعالى وأن يعرض عما سواه عزوجل فيرتاح باله [8] ؛ فإن الرحمة بيد الله وحده فـ (ما يفتح اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَلَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُالْحَكِيمُ ) . وحين تستقر هذه العقيدة فيقلب إنسان تتحول تصرفاته وتعتدل موازينه ؛ لأنها تقطعه عن كل قوة في السماواتوالأرض وتصله بقوة الله . وتغنيه عن كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله .
يجد هذه الرحمة من يفتحها الله له فيكل شيء ، وفي كلحال , وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ,ويجدها فيما حوله , حيثما كان , وكيفما كان، ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنهفي كل شيء , وفي كل وضع , وفي كل مكان ، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامةالوجدان والرضوان !
وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هيبذاتها نقمة . وما من محنة –تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينامالإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكتعنه - فإذا هو شوك القتاد .
ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادةويسر . ويعالج أيسر الأمور – وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر . ويخوض بهاالمخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هيمهلكة وبوار !يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغدفي الدنياوزادإلى الآخرة . ويمسك رحمته , فإذا هو مثار قلق وخوف .
يمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة فيالحياة ومصدر فرح واستمتاع ,ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء , وسهر بالليل وتعب بالنهار !
ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمةوحياة طيبة , والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه اللهعلى الصحيح القوي , فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح , ويدخر السوءليوم الحساب !
ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداةإصلاح , ومصدر أمن ,ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك اللهرحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما , ومصدر طغيان وبغي بهما , ومثارحقد وموجدة على صاحبه مالا يقر له معهما قرار , ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ,ويدخربهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار !والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقامالطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليلمن المعرفة يثمر وينفع , وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعلالله فيه السعادة .
ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال.
وجدها إبراهيم – عليه السلام - في النار .
ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها فيالسجن .
ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلماتثلاث .
ووجدها موسى – عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد منكل قوة ومن كل حراسة , كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .
ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصوروالدور . فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته).
ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغاروالقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . .
ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها .منقطعاً عن كل شبهة في قوة , وعن كل مظنة في رحمة , قاصداً باب الله وحده دونالأبواب [9].
ومن الآثــار:
إن المؤمن إذا علم أن الله إذا فتح أبواب رحمته لأحدفلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . كانت مخافته من الله . ورجاء ه في الله.. إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل .. يقدربلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك. (ما يفتح الله للناس من رحمةفلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده).
لو استقر هذا المعنى في قلب إنسان لصمد كالطودللأحداث والأشخاص والقوى والقيم . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحونرحمة الله حين يمسكها , ولا يمسكونها حين يفتحها . . (وهو العزيز الحكيم). .
إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آيةمن آياته . آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشقطريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة [10].
قال عامر بن عبد قيس : أربع آيات من كتاب الله إذاقرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لهمن بعده ) (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رادلفضله ) ( وسيجعل الله بعد عسر يسرا الطلاق) ( وما من دابة في الأرضإلا على الله رزقها هود ) [11] .
اللهم لك الحمد منزل القرآن هداية وزكاة وشفاء ورحمةللمؤمنين ...« لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمةً ، إنك أنتالوهاب » ، « رحمتك نرجو ، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين » .
* /كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
17/4/1428
[1] رواه مسلم رقم (1420).
[2] متفق عليه : رواه البخاري ح 3143 و اللفظ له . ورواهمسلم ح 2245 بنحوه . كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه .
[3] رواه الحاكم ح 7562 . والحديث صححه العلامة الألباني فيصحيح الترغيب والترهيب 2/ 274 ح 2264.
[4] ينظر: فتح الباري 13/358 في معنى قول الحليمي : الرحمنهو مزيح العلل ، أسماء الله الثابتة في الكتاب والسنة ، للرضواني 2/7 ، بتصرفواختصار .
[5] رواه البخاري ح 5654 .
[6] رواه البخاري ح 6104 .
[7] ينظر: في ظلال القرآن تفسير آية الزمر رقم :9 ، والإسراءرقم: 57 ، البقرة 218 بتصرف كثير .
[8] ينظر : روح المعاني ، للألوسي 22 / 165 .بتصرف .
[9] ينظر : في ظلال القرآن ، تفسير قوله تعالى (مايفتح الله للناس من رحمة ..) سورة فاطر ، آية رقم : 2 .
[10] المرجع السابق نفس الموضع .
[11] الدر المنثور ، للسيوطي 7 / 5 .
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin