لقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها لتحقيق المصالح
وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، قال الله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}،
ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة الحقيقية لم يصح وصفها بأنها رحمة
للعالمين، وبين الله تعالى صفة رسوله عليه الصلاة والسلام والغاية من بعثته
فقال: {الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
فهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به وتعرفه
وتقره العقول والفطر السليمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه
وتنكره وتأباه العقول والفطر السليمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات
النافعات، ولا يحرم إلا ما حرمه الله من الخبائث المضرات، ودينه هو دين
الحنيفية السمحة ، ومبناه على التيسير ورفع الحرج.
وقد أجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد،
ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 11/347): "ولا يمكن للمؤمن أن
يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت
بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات".
وما ذكره شيخ الإسلام هو معنى قوله تعالى عن القرآن العظيم: {وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}،
أي: صدقاً وحقاً في جميع أخباره، وعدلاً وصلاحاً في جميع أحكامه وتشريعاته.
وللإمام ابن القيم كلام نفيس في تقرير هذه القاعدة الجليلة التي لا يشذ
عنها شيء من أحكام الشريعة سواء أكانت من المأمورات أو المنهيات، حيث يقول
في (مفتاح دار السعادة 2/22-23): "وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين
عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان،
وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو
الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها.
وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه
وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم. وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق
من الشريعة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها
أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل... والقرآن مملوء من أوله إلى آخره
بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحها ومنافعها، وما تضمناه من الآيات الشاهدة
الدالة عليه...
وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى
آخرها شاهدة بذلك ناطقة به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة بادياً
على صفحاتها، منادياً عليها، يدعو العقول والألباب إليها"
فالشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما من حكم
شرعه الله إلا وهو جالب لمصلحة أو داريء لمفسدة، أو جالب وداريء في آن
واحد.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات 1/199): "المعلوم من الشريعة، أنها شرعت
لمصالح العباد، فالتكليف كله، إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أولهما
معا".
والمصلحة ضد
المفسدة، والمراد بالمصلحة ـ كما قال أهل الأصول ـ: هي المنفعة أو وسيلتها
التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم
وأموالهم.
فهي تطلق على المنفعة ذاتها، كما تطلق على وسائلها المفضية إليها، مما هو
داخل ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن تتبع كتب الأصول، أدرك هذا جلياً،
حيث يجدهم تارة يطلقون المصلحة على المنفعة، وتارة يطلقونها على أسبابها
الموصلة إليها، قال العز بن عبد السلام في كتابه القيم "قواعد الأحكام
1/12": "المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات. والثاني مجازي،
وهو أسبابها"، وقريب من هذا قول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة 2/14":
"المصلحة: هي اللذة والنعيم وما يفضي إليه. والمفسدة: هي العذاب والألم وما
يفضي إليه".
والمراد بالحفظ في التعريف هو مراعاة هذه المصالح الخمس من جانبي الوجود
والعدم، أما من جانب الوجود، فيكون بتشريع ما يوجدها ويقيمها ويكملها
ويقويها، وأما من جانب العدم، فيكون بتشريع ما يكفل بقاءها واستمرارها،
ويدرأ عنها ما يفوتها أو يخل بها، ويحميها من أي اعتداء واقع أو متوقع
عليها.
وإذا علمنا هذه الحقيقة الجليلة، وأن الشريعة كلها مبناها على تحقيق
المصالح ودرء المفاسد، في كل أحكامها وتشريعاتها، وأوامرها ومنهياتها، فليس
معنى ذلك أن المصلحة المعتبرة التي يبنى عليها الأمر والنهي، والتحليل
والتحريم هي ما نراه بمفهومنا القاصرة، وعقولنا المحدودة المشوبة بشوائب
الهوى والشهوة، والمتأثرة بمؤثرات الواقع المعاش والبيئة المحيطة، فكثير من
الناس ـ وبخاصة في زماننا اليوم مع الانفتاح الإعلامي الكبير وتنوع وسائل
الاتصال والتواصل ـ أخذ يتجرأ على جناب الشريعة، ويتصدى للتحليل والتحريم،
محتجاً بهذه الحقيقة وهي أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الخلق، فيقرر
الأحكام بناء على ما يراه بعقله القاصر، وتهواه نفسه الأمارة بالسوء، ويزعم
أن هذا هو ما تقتضيه المصلحة، وأنه هو حكم الله، دون أن ينظر في الأدلة
الشرعية، ويتعرف من خلالها وكلام العلماء المعتبرين حولها على حكم الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وقد يكون في واقع الأمر محرماً منهياً
عنه، وهو عين المفسدة، أو فيه مفاسد كثيرة تربي على ما فيه من مصالح أو
منافع.
وأخطر من هذا أن فئاماً من المتعالمين في زماننا اليوم، ممن جمعوا بين قلة
الفقه ورقة الدين، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس، أخذوا يخوضون في أحكام
الشريعة، ويفتون في كبار المسائل بلا حجة ولا دليل، ولا بينة ولا برهان،
وإنما دليلهم هو المصالح المرسلة، التي تقررها عقولهم القاصرة، وتدعو لها
أهوائهم الضالة وإراداتهم الفاسدة، فأباحوا كثيراً من المحرمات، وأنكروا
كثيراً من المشروعات، لأنها بزعمهم خلاف المصلحة التي هي مقصود الشارع، بل
وصل الحال ببعضهم إلى أن يتبنى ـ عن حسن نية أو سوء نية ـ
أحد
هذين المنهجين الخطيرين، وكلاهما كفيل بهدم الدين والتشكيك في أحكامه
القطعية، وثوابته الشرعية، وهما:
المنهج الأول: الزعم بأن علماء الشريعة
معنيون بأحكام العبادات والأحوال الشخصية ونحوها، ولا شأن لهم بقضايا
السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والمسائل الطبية والهندسية وعلوم
الفضاء وعلوم الأرض وعلوم البحار، والعلوم المدنية والعسكرية، فلا ناقة لهم
فيها ولا جمل، وليس لنا أن نستفتيهم عن الحلال والحرام فيها، لأنهم ليسوا
من أهلها، والمختصون فيها أعلم بوجوه المصالح والمفاسد فيها من علماء
الشريعة البعيدين عنها...
وفي هذا الكلام خلط عجيب، وتلبيس شديد، وجهل فاضح، لأن معرفة هؤلاء
المختصين بالطب أو الهندسة أو الصناعة أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع
أو نحوها لا يعني أنهم يعرفون أحكامها وضوابطها الشرعية، وما يحل فعله منها
وما يحرم، وإن كانوا هم المرجع المعتمد في تكييف هذه المسائل وتصويرها وشرح
حقائقها وبيان ملابساتها لعلماء الشريعة، لكن معرفة هؤلاء المتخصصين بهذه
العلوم وممارستهم لها لا تعني معرفتهم بحكم الشارع فيها، فالأحكام الشرعية
وقضايا الحلال والحرام في جميع مجالات الحياة وشتى مرافقها مرجعها إلى
علماء الشريعة والمتخصصين فيها.
ولست أنسى في هذا المقام موقفاً حصل معي في محاضرة مشهودة دعيت لإلقائها في
المؤتمر السنوي لرابطة الشباب العربي المسلم في أمريكا، والذي يحضره ما
يزيد على عشرة آلاف مسلم سنوياً، وكان موضوع المحاضرة حسبما طلب مني
"الجمود والتجديد في الفقه الإسلامي"، وحين أردت البدء في المحاضرة أبدوا
رغبتهم بأن يشاركني في الموضوع أحد المتخصصين في الهندسة المعمارية، ولكنه
ـ كما ذكروا ـ مهتم بهذه القضية، حيث ألف كتاباً كاملاً عن "بناء الأحكام
على المصالح في الشريعة الإسلامية"، فرحبت به وتوقعت أنه سيثري هذا الموضوع
المهم، ويحصل التكامل بين ما عنده وعندي، وحين جاء دوره في الكلام سمعت منه
أمراً عجباً، وهو يؤكد ما يقوله العلماء منذ القدم: من خاض في غير فنه أتى
بالعجائب، ويدل كذلك على جراءة بعض المتحذلقين والكتبة على الخوض في بعض
المسائل الكبرى في الشريعة وهم من أجهل الناس فيها، فيظلمون أنفسهم ودينهم
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
وكان مما قال: أنا
مهندس معماري أعلم من جميع علماء الشريعة بالهندسة المعمارية وقواعدها
ومدارسها وآلياتها ووسائل تنفيذها، وإذا أراد أحد من هؤلاء العلماء أن يبني
مسجداً أو بيتاً فنحن أهل الاختصاص في هذا المجال، ونحن الذين نرسم التصميم
المناسب لهذه المباني وأمثالها ـ وإلى هنا فكلامه لا اعتراض عليه ـ ولكنه
أردف قائلاً: وما دمنا نحن المختصين بالهندسة المعمارية فنحن أعلم بالمصالح
والمفاسد في هذا المجال، ولا حاجة بنا لسؤال العلماء عن ما يحل ويحرم من
أعمالنا وتصميماتنا، لأننا أعلم منهم بها!!
ثم أردف قائلاً:
وكذلك الحال
بالنسبة للأطباء الذين هم أعلم بالطب ووسائله من علماء الشريعة البعيدين عن
هذا المجال، وتجد الواحد منهم لا يحسن خياطة جرح أو إجراء عملية جراحية
صغيرة، أو صرف دواء لما يعانيه هو أو غيره من الأدواء المعتادة، وإذا كان
الأمر كذلك فلماذا يستفتى هؤلاء العلماء في القضايا الطبية والعمليات
الجراحية والأدوية العلاجية؟! بل كل طبيب يقدر المصلحة ويعمل بمقتضاها، لأن
الشريعة الإسلامية مبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد!!
وبعد أن فرغ شكرته على مشاركته ودعوت له بالمغفرة والتوفيق وقلت له: إن
المقدمات التي ذكرتها في حديثك ورتبت عليها النتيجة النهائية صحيحة لا غبار
عليها، ولكن النتيجة خاطئة قطعاً، ودليل صحة تلك المقدمات قول الله تعالى:
{فَاسْأَلُواْ
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
وأهل الذكر هم المتخصصون في كل شأن من شؤون الحياة، فإن كانت القضية طبية
رجعنا إلى الأطباء لتشخيصها وتوصيفها ومعرفة الوسيلة المناسبة لمعالجتها
وحلها، وإن كانت هندسية فنرجع لأهل الهندسة، وإن كانت فلكية رجعنا لعلماء
الفلك، وإن كانت حاسوبية رجعنا للمتخصصين في الحاسوب، وإن كانت اقتصادية
رجعنا لأهل الاقتصاد، وإن كانت سياسية رجعنا لأهل السياسة... وهكذا.
وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، قال الله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}،
ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة الحقيقية لم يصح وصفها بأنها رحمة
للعالمين، وبين الله تعالى صفة رسوله عليه الصلاة والسلام والغاية من بعثته
فقال: {الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
فهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به وتعرفه
وتقره العقول والفطر السليمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه
وتنكره وتأباه العقول والفطر السليمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات
النافعات، ولا يحرم إلا ما حرمه الله من الخبائث المضرات، ودينه هو دين
الحنيفية السمحة ، ومبناه على التيسير ورفع الحرج.
وقد أجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد،
ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 11/347): "ولا يمكن للمؤمن أن
يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت
بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات".
وما ذكره شيخ الإسلام هو معنى قوله تعالى عن القرآن العظيم: {وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}،
أي: صدقاً وحقاً في جميع أخباره، وعدلاً وصلاحاً في جميع أحكامه وتشريعاته.
وللإمام ابن القيم كلام نفيس في تقرير هذه القاعدة الجليلة التي لا يشذ
عنها شيء من أحكام الشريعة سواء أكانت من المأمورات أو المنهيات، حيث يقول
في (مفتاح دار السعادة 2/22-23): "وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين
عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان،
وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فات أدناها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو
الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها.
وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه
وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم. وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق
من الشريعة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها
أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل... والقرآن مملوء من أوله إلى آخره
بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحها ومنافعها، وما تضمناه من الآيات الشاهدة
الدالة عليه...
وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى
آخرها شاهدة بذلك ناطقة به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة بادياً
على صفحاتها، منادياً عليها، يدعو العقول والألباب إليها"
فالشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما من حكم
شرعه الله إلا وهو جالب لمصلحة أو داريء لمفسدة، أو جالب وداريء في آن
واحد.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات 1/199): "المعلوم من الشريعة، أنها شرعت
لمصالح العباد، فالتكليف كله، إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أولهما
معا".
والمصلحة ضد
المفسدة، والمراد بالمصلحة ـ كما قال أهل الأصول ـ: هي المنفعة أو وسيلتها
التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم
وأموالهم.
فهي تطلق على المنفعة ذاتها، كما تطلق على وسائلها المفضية إليها، مما هو
داخل ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن تتبع كتب الأصول، أدرك هذا جلياً،
حيث يجدهم تارة يطلقون المصلحة على المنفعة، وتارة يطلقونها على أسبابها
الموصلة إليها، قال العز بن عبد السلام في كتابه القيم "قواعد الأحكام
1/12": "المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات. والثاني مجازي،
وهو أسبابها"، وقريب من هذا قول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة 2/14":
"المصلحة: هي اللذة والنعيم وما يفضي إليه. والمفسدة: هي العذاب والألم وما
يفضي إليه".
والمراد بالحفظ في التعريف هو مراعاة هذه المصالح الخمس من جانبي الوجود
والعدم، أما من جانب الوجود، فيكون بتشريع ما يوجدها ويقيمها ويكملها
ويقويها، وأما من جانب العدم، فيكون بتشريع ما يكفل بقاءها واستمرارها،
ويدرأ عنها ما يفوتها أو يخل بها، ويحميها من أي اعتداء واقع أو متوقع
عليها.
وإذا علمنا هذه الحقيقة الجليلة، وأن الشريعة كلها مبناها على تحقيق
المصالح ودرء المفاسد، في كل أحكامها وتشريعاتها، وأوامرها ومنهياتها، فليس
معنى ذلك أن المصلحة المعتبرة التي يبنى عليها الأمر والنهي، والتحليل
والتحريم هي ما نراه بمفهومنا القاصرة، وعقولنا المحدودة المشوبة بشوائب
الهوى والشهوة، والمتأثرة بمؤثرات الواقع المعاش والبيئة المحيطة، فكثير من
الناس ـ وبخاصة في زماننا اليوم مع الانفتاح الإعلامي الكبير وتنوع وسائل
الاتصال والتواصل ـ أخذ يتجرأ على جناب الشريعة، ويتصدى للتحليل والتحريم،
محتجاً بهذه الحقيقة وهي أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الخلق، فيقرر
الأحكام بناء على ما يراه بعقله القاصر، وتهواه نفسه الأمارة بالسوء، ويزعم
أن هذا هو ما تقتضيه المصلحة، وأنه هو حكم الله، دون أن ينظر في الأدلة
الشرعية، ويتعرف من خلالها وكلام العلماء المعتبرين حولها على حكم الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وقد يكون في واقع الأمر محرماً منهياً
عنه، وهو عين المفسدة، أو فيه مفاسد كثيرة تربي على ما فيه من مصالح أو
منافع.
وأخطر من هذا أن فئاماً من المتعالمين في زماننا اليوم، ممن جمعوا بين قلة
الفقه ورقة الدين، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس، أخذوا يخوضون في أحكام
الشريعة، ويفتون في كبار المسائل بلا حجة ولا دليل، ولا بينة ولا برهان،
وإنما دليلهم هو المصالح المرسلة، التي تقررها عقولهم القاصرة، وتدعو لها
أهوائهم الضالة وإراداتهم الفاسدة، فأباحوا كثيراً من المحرمات، وأنكروا
كثيراً من المشروعات، لأنها بزعمهم خلاف المصلحة التي هي مقصود الشارع، بل
وصل الحال ببعضهم إلى أن يتبنى ـ عن حسن نية أو سوء نية ـ
أحد
هذين المنهجين الخطيرين، وكلاهما كفيل بهدم الدين والتشكيك في أحكامه
القطعية، وثوابته الشرعية، وهما:
المنهج الأول: الزعم بأن علماء الشريعة
معنيون بأحكام العبادات والأحوال الشخصية ونحوها، ولا شأن لهم بقضايا
السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والمسائل الطبية والهندسية وعلوم
الفضاء وعلوم الأرض وعلوم البحار، والعلوم المدنية والعسكرية، فلا ناقة لهم
فيها ولا جمل، وليس لنا أن نستفتيهم عن الحلال والحرام فيها، لأنهم ليسوا
من أهلها، والمختصون فيها أعلم بوجوه المصالح والمفاسد فيها من علماء
الشريعة البعيدين عنها...
وفي هذا الكلام خلط عجيب، وتلبيس شديد، وجهل فاضح، لأن معرفة هؤلاء
المختصين بالطب أو الهندسة أو الصناعة أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع
أو نحوها لا يعني أنهم يعرفون أحكامها وضوابطها الشرعية، وما يحل فعله منها
وما يحرم، وإن كانوا هم المرجع المعتمد في تكييف هذه المسائل وتصويرها وشرح
حقائقها وبيان ملابساتها لعلماء الشريعة، لكن معرفة هؤلاء المتخصصين بهذه
العلوم وممارستهم لها لا تعني معرفتهم بحكم الشارع فيها، فالأحكام الشرعية
وقضايا الحلال والحرام في جميع مجالات الحياة وشتى مرافقها مرجعها إلى
علماء الشريعة والمتخصصين فيها.
ولست أنسى في هذا المقام موقفاً حصل معي في محاضرة مشهودة دعيت لإلقائها في
المؤتمر السنوي لرابطة الشباب العربي المسلم في أمريكا، والذي يحضره ما
يزيد على عشرة آلاف مسلم سنوياً، وكان موضوع المحاضرة حسبما طلب مني
"الجمود والتجديد في الفقه الإسلامي"، وحين أردت البدء في المحاضرة أبدوا
رغبتهم بأن يشاركني في الموضوع أحد المتخصصين في الهندسة المعمارية، ولكنه
ـ كما ذكروا ـ مهتم بهذه القضية، حيث ألف كتاباً كاملاً عن "بناء الأحكام
على المصالح في الشريعة الإسلامية"، فرحبت به وتوقعت أنه سيثري هذا الموضوع
المهم، ويحصل التكامل بين ما عنده وعندي، وحين جاء دوره في الكلام سمعت منه
أمراً عجباً، وهو يؤكد ما يقوله العلماء منذ القدم: من خاض في غير فنه أتى
بالعجائب، ويدل كذلك على جراءة بعض المتحذلقين والكتبة على الخوض في بعض
المسائل الكبرى في الشريعة وهم من أجهل الناس فيها، فيظلمون أنفسهم ودينهم
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
وكان مما قال: أنا
مهندس معماري أعلم من جميع علماء الشريعة بالهندسة المعمارية وقواعدها
ومدارسها وآلياتها ووسائل تنفيذها، وإذا أراد أحد من هؤلاء العلماء أن يبني
مسجداً أو بيتاً فنحن أهل الاختصاص في هذا المجال، ونحن الذين نرسم التصميم
المناسب لهذه المباني وأمثالها ـ وإلى هنا فكلامه لا اعتراض عليه ـ ولكنه
أردف قائلاً: وما دمنا نحن المختصين بالهندسة المعمارية فنحن أعلم بالمصالح
والمفاسد في هذا المجال، ولا حاجة بنا لسؤال العلماء عن ما يحل ويحرم من
أعمالنا وتصميماتنا، لأننا أعلم منهم بها!!
ثم أردف قائلاً:
وكذلك الحال
بالنسبة للأطباء الذين هم أعلم بالطب ووسائله من علماء الشريعة البعيدين عن
هذا المجال، وتجد الواحد منهم لا يحسن خياطة جرح أو إجراء عملية جراحية
صغيرة، أو صرف دواء لما يعانيه هو أو غيره من الأدواء المعتادة، وإذا كان
الأمر كذلك فلماذا يستفتى هؤلاء العلماء في القضايا الطبية والعمليات
الجراحية والأدوية العلاجية؟! بل كل طبيب يقدر المصلحة ويعمل بمقتضاها، لأن
الشريعة الإسلامية مبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد!!
وبعد أن فرغ شكرته على مشاركته ودعوت له بالمغفرة والتوفيق وقلت له: إن
المقدمات التي ذكرتها في حديثك ورتبت عليها النتيجة النهائية صحيحة لا غبار
عليها، ولكن النتيجة خاطئة قطعاً، ودليل صحة تلك المقدمات قول الله تعالى:
{فَاسْأَلُواْ
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
وأهل الذكر هم المتخصصون في كل شأن من شؤون الحياة، فإن كانت القضية طبية
رجعنا إلى الأطباء لتشخيصها وتوصيفها ومعرفة الوسيلة المناسبة لمعالجتها
وحلها، وإن كانت هندسية فنرجع لأهل الهندسة، وإن كانت فلكية رجعنا لعلماء
الفلك، وإن كانت حاسوبية رجعنا للمتخصصين في الحاسوب، وإن كانت اقتصادية
رجعنا لأهل الاقتصاد، وإن كانت سياسية رجعنا لأهل السياسة... وهكذا.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin