لمسات
بيانية في سورةالتين
وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
ابتدأت السورة بالقسم
بالتين والزيتون. والتين والزيتون قد يكون قصد بهما الشجران المعروفان، وقد ذكر
المفسرون لاختيار هذين الشجرين للقسم بهما أسباباً عدة، فقد ذكروا أنه أقسم بنوعين
من الشجر ، نوع ثمره ليس فيه عجم ونوع فيه عجم، وأنه ورد في الأثر أن التين من شجر
الجنة فقد روي أنه أُهدي لرسول الله r طبق من تين فأكل
منه وقال لأصحابه:" كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة
الجنة بلا عجم". وقد ذكر أن آدم خصف من ورقه ليستر عورته حين انكشفت في
الجنة.
وأما الزيتون فإنه
شجرة مباركة كما جاء في التنزيل العزيز.
وقد ذكروا أموراً أخرى
لا داعي لسردها هاهنا .
ولا ندري هل لبدء
السورة بالقسم بالشجر الذي يذكر أن له أصلاً في الجنة أعني التين له علاقة بعدد
آيات هذه السورة أو لا؟ فإن عدد آيات هذه السورة ثمانية وهن بعدد أبوبا الجنة. وقد
يكون هذا القول خرصاً محضاً وأنا أميل إلى ذلك، ولكنا قد وجدنا شيئاً من أنواع هذه
العلاقات في القرآن. فقد تكرر كما سبق أن ذكرنا قوله تعالى (فَبِأَيِّ آَلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن ) ، عند الكلام في وصف الجنة ثماني مرات
بعدد أبواب الجنة، وحصل هذا مرتين في السورة، وتكرر في الوعيد سبع مرات بعدد أبواب
جهنم (انظر ملاك التأويل) ابتداء من قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا
الثَّقَلَانِ (31) الرحمن). وقالوا إن سورة القدر ثلاثون كلمة بعدد أيام شهر
رمضان وإن قوله (هي) في قوله تعالى (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
(5) القدر) هي الكلمة السابعة والعشرون وهي إشارة إلى أن هذه الليلة هي الليلة
السابعة والعشرون من رمضان.
وعلى أي حال فإن
كثيراً من هذه العلاقات ربما كانت موافقات والله أعلم.
وقيل: إن المقصود
بالتين والزيتون جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانة طور تينا وطور زيتا
لأنهما منبتا التين والزيتون. (التفسير الكبير 32/9، روح المعاني 30/174).
والعلاقة بين التين
والزيتون وما بعدهما ليست ظاهرة على هذا إلا بتكلف. وقيل: " هذه محال ثلاثة
بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار
فالأول: محله التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم u والثاني: طور سنين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن
عمران u، والثالث: مكة
وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً r (تفسير ابن كثير 4/526).
وجاء في (التبيان في
أقسام القرآن): " فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر
أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة. فالتين والزيتون المراد به
نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيته المقدس... وهو مظهر عبد الله
ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم. كما أن طور سنين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى،
فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثم أقسم بالبد الأمين
وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم. وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى
الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنّى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر
عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه. ونظير هذا بعينه في التوراة التي أنزلها الله على
كليمه موسى: (جاء الله من طور سيناء وأشرق من ساعير وواستعلن من فاران).
فمجيئه من طور سيناء
بعثته لموسى بن عمران ، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع، ثم ثنّى بنبوة المسيح، ثم
ختمه بنبوة محمد r (التبيان 35-55).
وهذا هو الراجح فيما
أرى لأن المناسبة بين هذه المحالّ المُقسم بها ظاهرة على هذا.
ثم لننظر إلى ترتيب
هذه الأشياء المقسم بها:
فقد بدأ بالتين
والزيتون. والزيتون أشرف وأفضل من التين فقد شهد الله له أنه شجرة مباركة قال
تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى
نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)) وهي فاكهة من وجه وإدام من
وجه وزيتها يُستعمل في إنارة المصابيح والسُرُج.
ثم أقسم بطور سنين وهو
أفضل مما ذكر قبل، فإنه الجبل الذي كلم الرب عليه موسى وناجاه وأرسله إلى فرعون
وقومه.
ثم انظر من ناحية أخرى
كيف وضع طور سنين بجوار الزيتون لا بجوار التين، وقد ورد ذكر الزيتون بجوار الطور
في موطن آخر من التنزيل العزيز (في ظلال القرآن 30/190)
قال تعالى (وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ
(20)) وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون بإجماع المفسرين. قال الواحدي: "والمفسرون
كلهم يقولون إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون (فتح القدير 3/463، روح المعاني
18/22-23)"
ثم أقسم بالبلد الأمين
وهو مكة المكرمة: مكان مولد رسول الله r ومبعثه ومكان
البيت الذي هو هدى للعالمين (روح المعاني 30/173). وهو أفضل البقاع عند الله
وأحبها إليه كما جاء في الحديث الشريف، فتدرّج من الفاضل إلى الأفضل ومن الشريف
إلى الأشرف.
فأنت ترى أنه تدرج من
التين إلى الزيتون إلى طور سنين إلى بلد الله الأمين، فختم بموطن الرسالة الخاتمة
أشرف الرسالات.
وقد وصف الله هذا البلد
بصفة (الأمين) وهي صفة اختيرت هنا اختياراً مقصوداً لا يسدُّ مسدّها وصف آخر.
فالأمين وصف يحتمل أن
يكون من الأمانة، كما يحتمل أن يكون من الأمن. وكلا المعنيين مُراد.
فمن حيث الأمانة وُصف
بالأمين لأنه مكان أداء الأمانة وهي الرسالة والأمانة ينبغي أن تؤدى في مكان أمين.
فالرسالة أمانة نزل بها الروح الأمين وهو جبريل، وأداها إلى الصادق الأمين وهو
محمد، في البلد الأمين وهو مكة. فانظر كيف اختير الوصف ههنا أحسن اختيار وأنسبه.
فالأمانة حملها رسول
موصوف بالأمانة فأداها إلى شخص موصوف بالأمانة في بلد موصوف بالأمانة. جاء في (روح
المعاني): "وأمانته أن يحفظ من دَخَله كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه"
وأما من حيث الأمن فهو
البلد الآمن قبل الإسلام وبعده، دعا له سيدنا ابراهيم u بالأمن قبل أن يكون بلداً وبعد أن صار بلداً فقال أولاً: (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)) وقال فيما بعد: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35))
فهو مدعو له بالأمن من أبي الأنبياء. وقد استجاب الله سبحانه هذه الدعوة قال تعالى
(( فيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97))
وقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)).
فـ (الأمين) على هذا
(فعيل) للمبالغة بمعنى الآمن، ويحتمل أن تكون (الأمين) فعيلاً بمعنى فعول، مثل
جريح بمعنى مجروح وأسير بمعنى مأسور أي المأمون ، وذلك لأنه مأمون الغوائل (روح
المعاني 30/173، البحر المحيط 8/490، الكشاف 3/348)
جاء في روح المعاني:
"الأمين فعيل بمعنى فاعل أي الآمن من أمُن الرجل بضمّ الميم أمانة فهو أمين..
وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.. وأما بمعنى مفعول أي:
المأمون من (أمنه) أي: لم يَخَفه، ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقة الناس
أي: لا تخاف غوائلهم فيه، أو الكلام على الحذف والإيصال أي: المأمون فيه من
الغوائل (روح المعاني 30/173)".
وجاء في البحر المحيط:
"وأمين للمبالغة أي: آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو أمُن
الرجل بضمّ الميم أمانة، فهو أمين كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون
بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل (البحر المحيط 8/490، الكشاف
3/348)".
وقد تقول: ولم اختار
لفظ (الأمين) على (الآمن) الذي تردد في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟ قال تعالى (وَقَالُوا
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ
لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) القصص) وقال (أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
العنكبوت)
والجواب : أنه
باختياره لفظ (الأمين) جمع معنيي الأمن والأمانة، وجمع معنى اسم الفاعل واسم المفعول،
وجمع الحقيقة والمجاز، فهو أمين وآمن ومأمون، وهذه المعاني كلها مُرادة مطلوبة.
ثم انظر إلى جواب
القسم وهو قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) التين) كيف تناسب مع المُقسم به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه
أقسم بالرسالات على بداية الإنسان ونهايته فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) وهذه بدايته، ثم قال: (ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)) وهذه نهايته.
"ثم لما كان
الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم من أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين.
فذكر حال الأكثرين وهو المردودون إلى أسفل سافلين (التبيان في أقسام القرآن 55-56)
والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون.
ولما كانت الرسالات
إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر
طبيعة الإنسان في قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) التين) وذكر المنهج في قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)).
وفي هذه إشارة إلى أن
المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير متناقض لها وإلا فشل.
فكان الجواب كما ترى
أوفى جواب وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده.
ثم انظر من ناحية أخرى
إلى قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
التين) فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يبنه للمجهول، وذلك أنه موطن بيان عظيم قدريه
وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك غلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل
هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضّل يسند الأمر إلى نفسه قال تعالى (وَمِمَّنْ
خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) الأعراف).
.
بيانية في سورةالتين
وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
ابتدأت السورة بالقسم
بالتين والزيتون. والتين والزيتون قد يكون قصد بهما الشجران المعروفان، وقد ذكر
المفسرون لاختيار هذين الشجرين للقسم بهما أسباباً عدة، فقد ذكروا أنه أقسم بنوعين
من الشجر ، نوع ثمره ليس فيه عجم ونوع فيه عجم، وأنه ورد في الأثر أن التين من شجر
الجنة فقد روي أنه أُهدي لرسول الله r طبق من تين فأكل
منه وقال لأصحابه:" كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة
الجنة بلا عجم". وقد ذكر أن آدم خصف من ورقه ليستر عورته حين انكشفت في
الجنة.
وأما الزيتون فإنه
شجرة مباركة كما جاء في التنزيل العزيز.
وقد ذكروا أموراً أخرى
لا داعي لسردها هاهنا .
ولا ندري هل لبدء
السورة بالقسم بالشجر الذي يذكر أن له أصلاً في الجنة أعني التين له علاقة بعدد
آيات هذه السورة أو لا؟ فإن عدد آيات هذه السورة ثمانية وهن بعدد أبوبا الجنة. وقد
يكون هذا القول خرصاً محضاً وأنا أميل إلى ذلك، ولكنا قد وجدنا شيئاً من أنواع هذه
العلاقات في القرآن. فقد تكرر كما سبق أن ذكرنا قوله تعالى (فَبِأَيِّ آَلَاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن ) ، عند الكلام في وصف الجنة ثماني مرات
بعدد أبواب الجنة، وحصل هذا مرتين في السورة، وتكرر في الوعيد سبع مرات بعدد أبواب
جهنم (انظر ملاك التأويل) ابتداء من قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا
الثَّقَلَانِ (31) الرحمن). وقالوا إن سورة القدر ثلاثون كلمة بعدد أيام شهر
رمضان وإن قوله (هي) في قوله تعالى (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
(5) القدر) هي الكلمة السابعة والعشرون وهي إشارة إلى أن هذه الليلة هي الليلة
السابعة والعشرون من رمضان.
وعلى أي حال فإن
كثيراً من هذه العلاقات ربما كانت موافقات والله أعلم.
وقيل: إن المقصود
بالتين والزيتون جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانة طور تينا وطور زيتا
لأنهما منبتا التين والزيتون. (التفسير الكبير 32/9، روح المعاني 30/174).
والعلاقة بين التين
والزيتون وما بعدهما ليست ظاهرة على هذا إلا بتكلف. وقيل: " هذه محال ثلاثة
بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار
فالأول: محله التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم u والثاني: طور سنين وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن
عمران u، والثالث: مكة
وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً r (تفسير ابن كثير 4/526).
وجاء في (التبيان في
أقسام القرآن): " فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر
أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة. فالتين والزيتون المراد به
نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيته المقدس... وهو مظهر عبد الله
ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم. كما أن طور سنين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى،
فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثم أقسم بالبد الأمين
وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم. وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى
الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنّى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر
عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه. ونظير هذا بعينه في التوراة التي أنزلها الله على
كليمه موسى: (جاء الله من طور سيناء وأشرق من ساعير وواستعلن من فاران).
فمجيئه من طور سيناء
بعثته لموسى بن عمران ، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع، ثم ثنّى بنبوة المسيح، ثم
ختمه بنبوة محمد r (التبيان 35-55).
وهذا هو الراجح فيما
أرى لأن المناسبة بين هذه المحالّ المُقسم بها ظاهرة على هذا.
ثم لننظر إلى ترتيب
هذه الأشياء المقسم بها:
فقد بدأ بالتين
والزيتون. والزيتون أشرف وأفضل من التين فقد شهد الله له أنه شجرة مباركة قال
تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى
نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)) وهي فاكهة من وجه وإدام من
وجه وزيتها يُستعمل في إنارة المصابيح والسُرُج.
ثم أقسم بطور سنين وهو
أفضل مما ذكر قبل، فإنه الجبل الذي كلم الرب عليه موسى وناجاه وأرسله إلى فرعون
وقومه.
ثم انظر من ناحية أخرى
كيف وضع طور سنين بجوار الزيتون لا بجوار التين، وقد ورد ذكر الزيتون بجوار الطور
في موطن آخر من التنزيل العزيز (في ظلال القرآن 30/190)
قال تعالى (وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ
(20)) وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون بإجماع المفسرين. قال الواحدي: "والمفسرون
كلهم يقولون إن المراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون (فتح القدير 3/463، روح المعاني
18/22-23)"
ثم أقسم بالبلد الأمين
وهو مكة المكرمة: مكان مولد رسول الله r ومبعثه ومكان
البيت الذي هو هدى للعالمين (روح المعاني 30/173). وهو أفضل البقاع عند الله
وأحبها إليه كما جاء في الحديث الشريف، فتدرّج من الفاضل إلى الأفضل ومن الشريف
إلى الأشرف.
فأنت ترى أنه تدرج من
التين إلى الزيتون إلى طور سنين إلى بلد الله الأمين، فختم بموطن الرسالة الخاتمة
أشرف الرسالات.
وقد وصف الله هذا البلد
بصفة (الأمين) وهي صفة اختيرت هنا اختياراً مقصوداً لا يسدُّ مسدّها وصف آخر.
فالأمين وصف يحتمل أن
يكون من الأمانة، كما يحتمل أن يكون من الأمن. وكلا المعنيين مُراد.
فمن حيث الأمانة وُصف
بالأمين لأنه مكان أداء الأمانة وهي الرسالة والأمانة ينبغي أن تؤدى في مكان أمين.
فالرسالة أمانة نزل بها الروح الأمين وهو جبريل، وأداها إلى الصادق الأمين وهو
محمد، في البلد الأمين وهو مكة. فانظر كيف اختير الوصف ههنا أحسن اختيار وأنسبه.
فالأمانة حملها رسول
موصوف بالأمانة فأداها إلى شخص موصوف بالأمانة في بلد موصوف بالأمانة. جاء في (روح
المعاني): "وأمانته أن يحفظ من دَخَله كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه"
وأما من حيث الأمن فهو
البلد الآمن قبل الإسلام وبعده، دعا له سيدنا ابراهيم u بالأمن قبل أن يكون بلداً وبعد أن صار بلداً فقال أولاً: (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)) وقال فيما بعد: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35))
فهو مدعو له بالأمن من أبي الأنبياء. وقد استجاب الله سبحانه هذه الدعوة قال تعالى
(( فيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97))
وقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)).
فـ (الأمين) على هذا
(فعيل) للمبالغة بمعنى الآمن، ويحتمل أن تكون (الأمين) فعيلاً بمعنى فعول، مثل
جريح بمعنى مجروح وأسير بمعنى مأسور أي المأمون ، وذلك لأنه مأمون الغوائل (روح
المعاني 30/173، البحر المحيط 8/490، الكشاف 3/348)
جاء في روح المعاني:
"الأمين فعيل بمعنى فاعل أي الآمن من أمُن الرجل بضمّ الميم أمانة فهو أمين..
وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.. وأما بمعنى مفعول أي:
المأمون من (أمنه) أي: لم يَخَفه، ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقة الناس
أي: لا تخاف غوائلهم فيه، أو الكلام على الحذف والإيصال أي: المأمون فيه من
الغوائل (روح المعاني 30/173)".
وجاء في البحر المحيط:
"وأمين للمبالغة أي: آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو أمُن
الرجل بضمّ الميم أمانة، فهو أمين كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون
بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل (البحر المحيط 8/490، الكشاف
3/348)".
وقد تقول: ولم اختار
لفظ (الأمين) على (الآمن) الذي تردد في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟ قال تعالى (وَقَالُوا
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ
لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) القصص) وقال (أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
العنكبوت)
والجواب : أنه
باختياره لفظ (الأمين) جمع معنيي الأمن والأمانة، وجمع معنى اسم الفاعل واسم المفعول،
وجمع الحقيقة والمجاز، فهو أمين وآمن ومأمون، وهذه المعاني كلها مُرادة مطلوبة.
ثم انظر إلى جواب
القسم وهو قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) التين) كيف تناسب مع المُقسم به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه
أقسم بالرسالات على بداية الإنسان ونهايته فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) وهذه بدايته، ثم قال: (ثُمَّ
رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)) وهذه نهايته.
"ثم لما كان
الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم من أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين.
فذكر حال الأكثرين وهو المردودون إلى أسفل سافلين (التبيان في أقسام القرآن 55-56)
والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون.
ولما كانت الرسالات
إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر
طبيعة الإنسان في قوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) التين) وذكر المنهج في قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)).
وفي هذه إشارة إلى أن
المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير متناقض لها وإلا فشل.
فكان الجواب كما ترى
أوفى جواب وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده.
ثم انظر من ناحية أخرى
إلى قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
التين) فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يبنه للمجهول، وذلك أنه موطن بيان عظيم قدريه
وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك غلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل
هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضّل يسند الأمر إلى نفسه قال تعالى (وَمِمَّنْ
خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) الأعراف).
.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin