مثل
من عرف الحق والهدى وعمل بغيره
العمل ببطلان
غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا
له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده
فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى
فصل
النوع الثاني
أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل
والضلال فتراكمت عليه ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعلموا بعلمهم فصاروا
جاهلين وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه
موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة
السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان
المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين
اللذين ضربهما للمنافقين والمؤمنين وهما المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين
منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة
فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغرر الناظر فيه ولا حقيقة
له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار
وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد
ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا
مثل
المنعم عليهم والضالين والمغضوب عليهم
على غير علم ولا
بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني
هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد إذ أبصروه
وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف
لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة
فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله
والله يرزق من يشاء بغير حساب فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم
أهل النور والضالين وهم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله
أعلم فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع فأولئك أصحاب العمل
الباطل وهؤلاء أصحاب العمل الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين
الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة
في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج
الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر
اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلاله وأنه تنزيل
من حكيم حميد وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم على الظلمة
التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي
مثل
من يسمع ولا يعقل
قال إن الله خلق
خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك
أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له
نورا وجوديا يحيى به قلبه وروحه كما يحيى بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهي حياتان حياة
البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى الله الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية
عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلقي الروح
من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا
فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ماله من نور
فصل
ومنها قوله تعالى
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فشبه أكثر
الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين
أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها
يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعونهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا
مثل الشرك بالله
يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما
يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا
تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول
والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد
وإلى الطريق مع الدليل له أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه
فصل
ومنها قوله تعالى
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه
سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون وهذا دليل قياسي احتج الله
سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون
صحتها من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه
ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندهم معلوم لها فقال هل لكم من ما ملكت أيمانكم من
عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم و أهليكم فأنتم
وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم
كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى
هل
هل يرضى أحد منكم
أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في
ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم
فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع
أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم
الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبادي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم
لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
فصل
ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا
عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون
الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو
كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم
هذان مثلان متضمنان
قياسين من قياس العكس وهو نفى الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي
اثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي
علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك
لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا ليلا ونهارا يمينه ملأى لا تغضيها نفقة
سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف تجعلونها شركاء لي
وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن
إن الله يعلم
وأنتم لا تعلمون عباس وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير
الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا و الكفار
بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد
من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فأنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب
وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من
السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
ثم قال
ضرب الله مثلا
عبدا مملوكا لا يقدر ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه
رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا مما نبه عليه المثل
وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لأن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا
في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك معنى الآية التي
لا معنى لها غيره فيحكيه قوله
فصل وأما المثل
الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا فالصنم الذي يعبدون
من دونه بنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي
كمال العبودية
واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير
ولا يقضي لك حاجة و الله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا
وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم
له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل ينزه عن ضده الذي هو الجور والظلم
والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاوروه
عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري
الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح
اللهم اني عبدك
ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما
أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فلا يأمر بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم
به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فإن القضاء غير المقضي والقدر
غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول شعيب عليه الصلاة والسلام
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط
مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد
وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا
يفعل إلا ما هو مصلحة وحكمة وعدل
تفسير
ابن جرير لمعنى الصراط
فهو على حق في
أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد ما يكون طالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه
من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غير التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا
يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط مالا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب
الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله
قال محمد بن جرير
الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه
بإحسانه و المسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان
ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق
وكذلك رواه ابن جريج عنه وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة
فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وقالت فرقة في الكلام
حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى
الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر
وقد فرق سبحانه
بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم
من جملة على صراط مستقيم فقد أصابوا وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن
مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء أن أرادوا أن هذا معني
الآية فليس كذلك وإن أرادوا ان هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه و موجبه
فهو حق وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان
حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب عليه الصلاة والسلام بين قوله ما من دابة إلا
هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان فالقول قول
مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه قال جرير يمدح
عمر بن عبد العزيز ... أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ...
وقد قال تعالى
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان الله تعالى هو الذي جعل
رسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه
أحق أن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة
أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله
وبالله التوفيق
فصل وفي الآية
قول ثان مثل الآية الأولى سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في معنى
هذا القول والله الموفق
من عرف الحق والهدى وعمل بغيره
العمل ببطلان
غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا
له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده
فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى
فصل
النوع الثاني
أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل
والضلال فتراكمت عليه ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعلموا بعلمهم فصاروا
جاهلين وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه
موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة
السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان
المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين
اللذين ضربهما للمنافقين والمؤمنين وهما المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين
منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة
فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغرر الناظر فيه ولا حقيقة
له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار
وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد
ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا
مثل
المنعم عليهم والضالين والمغضوب عليهم
على غير علم ولا
بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني
هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد إذ أبصروه
وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف
لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة
فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله
والله يرزق من يشاء بغير حساب فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم
أهل النور والضالين وهم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله
أعلم فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع فأولئك أصحاب العمل
الباطل وهؤلاء أصحاب العمل الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين
الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة
في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج
الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر
اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلاله وأنه تنزيل
من حكيم حميد وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم على الظلمة
التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي
مثل
من يسمع ولا يعقل
قال إن الله خلق
خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك
أقول جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له
نورا وجوديا يحيى به قلبه وروحه كما يحيى بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهي حياتان حياة
البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى الله الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية
عليه كما قال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده وقال يلقي الروح
من أمره على من يشاء من عباده وقال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعل وحيه روحا ونورا
فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ماله من نور
فصل
ومنها قوله تعالى
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فشبه أكثر
الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين
أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها
يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعونهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا
مثل الشرك بالله
يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما
يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا
تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول
والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد
وإلى الطريق مع الدليل له أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه
فصل
ومنها قوله تعالى
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه
سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون وهذا دليل قياسي احتج الله
سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون
صحتها من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه
ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندهم معلوم لها فقال هل لكم من ما ملكت أيمانكم من
عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم و أهليكم فأنتم
وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم
كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى
هل
هل يرضى أحد منكم
أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في
ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم
فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع
أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم
الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبادي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم
لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
فصل
ومنها قوله تعالى ضرب الله مثلا
عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون
الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو
كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم
هذان مثلان متضمنان
قياسين من قياس العكس وهو نفى الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي
اثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي
علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك
لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا ليلا ونهارا يمينه ملأى لا تغضيها نفقة
سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف تجعلونها شركاء لي
وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن
إن الله يعلم
وأنتم لا تعلمون عباس وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير
الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا و الكفار
بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد
من العقلاء والقول الأول أشبه بالمراد فأنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب
وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من
السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون
ثم قال
ضرب الله مثلا
عبدا مملوكا لا يقدر ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه
رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا مما نبه عليه المثل
وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لأن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا
في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك معنى الآية التي
لا معنى لها غيره فيحكيه قوله
فصل وأما المثل
الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا فالصنم الذي يعبدون
من دونه بنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي
كمال العبودية
واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير
ولا يقضي لك حاجة و الله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا
وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم
له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل ينزه عن ضده الذي هو الجور والظلم
والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاوروه
عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري
الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح
اللهم اني عبدك
ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك فقضاؤه هو أمره الكوني فإنما
أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فلا يأمر بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم
به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فإن القضاء غير المقضي والقدر
غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول شعيب عليه الصلاة والسلام
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم
فقوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله إن ربي على صراط
مستقيم نظير قوله عدل في قضاؤك فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد
وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا
يفعل إلا ما هو مصلحة وحكمة وعدل
تفسير
ابن جرير لمعنى الصراط
فهو على حق في
أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد ما يكون طالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه
من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غير التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا
يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط مالا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب
الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله
قال محمد بن جرير
الطبري وقوله إن ربي على صراط مستقيم يقول إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه
بإحسانه و المسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان
ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عنه إن ربي على صراط مستقيم قال الحق
وكذلك رواه ابن جريج عنه وقالت فرقة هي مثل قوله إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة
فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وقالت فرقة في الكلام
حذف تقديره إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى
الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر
وقد فرق سبحانه
بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم
من جملة على صراط مستقيم فقد أصابوا وقالت فرقة أخرى معنى كونه على صراط مستقيم أن
مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء أن أرادوا أن هذا معني
الآية فليس كذلك وإن أرادوا ان هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه و موجبه
فهو حق وقالت فرقة أخرى معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان
حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب عليه الصلاة والسلام بين قوله ما من دابة إلا
هو آخذ بناصيتها وبين قوله إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان فالقول قول
مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه قال جرير يمدح
عمر بن عبد العزيز ... أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم ...
وقد قال تعالى
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وإذا كان الله تعالى هو الذي جعل
رسله عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه
أحق أن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة
أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله
وبالله التوفيق
فصل وفي الآية
قول ثان مثل الآية الأولى سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في معنى
هذا القول والله الموفق
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin