كاد
القرن الأول الهجري أن ينتهي ، ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره بجمع الحديث
وتدوينه ، بل تركوه موكولاً إلى حفظ العلماء والرواة وضبطهم ، وبعض
الكتابات الفردية ، وكان مرور مثل هذا الزمن الطويل كفيلاً بتركيز القرآن
وتثبيته في نفوس الناس ، فقد أصبح يتلوه القاصي والداني ، ويعرفه الخاص
والعام ، ولا يختلف فيه أحد أو يشك في شيء من آياته ، كما كان مرور هذا
الزمن الطويل أيضاً كفيلاً بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة
والتابعين في الحروب والفتوحات ، وأن يتفرقوا في الأمصار ، مما هيأ لأهل
الأهواء والبدع - الذين ظهروا في هذه الفترة - أن يزيدوا في حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يُدْخلوا فيه ما ليس منه مما يؤيد بدعتهم
ويلبي انحرافهم ، كما أن انتشار الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية جعل العرب
يختلطون بغيرهم من الأعاجم في البلدان المختلفة مما نتج عنه قلة الضبط في
نقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب ضعف ملكة الحفظ عند الناس
.
وفي العام التاسع والتسعين للهجرة تولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنه خلافة المسلمين ، فنظر إلى الأحوال والظروف التي تمر بها
الأمة ، فرأى أن عليه البدء بكتابة الحديث وتدوينه حفظا له من الضياع
والتحريف ، حيث أن المانع الذي كان يمنع تدوين الحديث قد زال ، ومصلحة
المسلمين باتت تستدعي جمع الحديث وتدوينه
.
فكتب إلى عُمَّاله وولاته يأمرهم بذلك ، حيث أرسل إلى أبي بكر ابن حزم
ـ عامله وقاضيه على المدينة ـ قائلاً له : " انظر ما كان من حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
" ، وطلب منه أن يكتب ما عند عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر
، وكتب إلى علماء المسلمين في الأمصار المختلفة " انظروا إلى حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فاجمعوه " ، وكان ممن كتب إليهم الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد الأئمة الأعلام ، وعالم أهل الحجاز والشام المتوفى سنة 124هـ ، حيث استجاب لطلبعمر بن عبد العزيز فجمع حديث أهل المدينة وقدمه له ، فبعث عمر إلى كل أرض دفتراً من دفاتره ، وكانت هذه هي المحاولة الأولى لجمع الحديث وتدوينه بشمول واستقصاء ، وكان تدوين الإمام الزهري
للسنة عبارة عن جمع ما سمعه من أحاديث الصحابة من غير تبويب على أبواب
العلم ، وربما كان مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، وهذا ما
تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد ، وبذلك مهد الإمام الزهري الطريق لمن أعقبه من العلماء والمصنفين ، ووضع حجر الأساس في تدوين السنة في كتب خاصة .
ثم نشطت حركة التدوين بعد ذلك ، وأخذت في التطور والازدهار ، وتعاون الأئمة والعلماء في مختلف الأمصار ، فكتب ابن جريج بمكة ، وكتب مالك وابن اسحاق بالمدينة ، وكتب سعيد بن أبي عَروبة والربيع بن صُبيح وحماد بن سلمة بالبصرة ، وكتب سفيان الثوري بالكوفة ، وكتب أبو عمرو الأوزاعي بالشام ، ، وكتب عبد الله بن المبارك بخراسان ، وكتب معمر
باليمن ، وغيرهم من الأئمة ، وكانت طريقتهم في التدوين هي جمع أحاديث كل
باب من أبواب العلم على حدة ، ثم ضم هذه الأبواب بعضها إلى بعض في مصنف
واحد ، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين ، ولذلك حملت المصنفات الأولى في
هذا الزمن عناوين مثل " مصنف " و " موطأ " و " جامع " .
ثم
جاء القرن الثالث فحدث طور آخر من أطوار تدوين السنة تجلى في إفراد حديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتصنيف دون غيره من أقوال الصحابة
والتابعين ، فألفت المسانيد التي جمعت أحاديث كل صحابي على حدة ، من غير
مراعاة لوحدة الموضوع ، كمسند الإمام أحمد ، ومسند إسحاق بن راهُوْيَه ، ومسندعثمان بن أبي شيبة
وغيرها من المسانيد ، ولم تقتصر هذه المسانيد على جمع الحديث الصحيح بل
احتوت على الصحيح وغيره مما جعل الإفادة منها والوقوف على أحاديث مسألة
معينة من الصعوبة بمكان إلا على أئمة هذا الشأن ، خصوصاً وأنها لم ترتب
على أبواب الفقه ، مما حدا بإمام المحدثين في عصره محمد بن إسماعيل البخاري أن ينحو بالتأليف منحىً جديدًا اقتصر فيه على الحديث الصحيح فحسب دون ما عداه ، فألف كتابه الجامع الصحيح المشهور بـ" صحيح البخاري " ، وجرى على منواله معاصره وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري فألف صحيحه المشهور بـ " صحيح مسلم"
، وقد رتبا صحيحيهما على أبواب الفقه تسهيلاً على العلماء والفقهاء عند
الرجوع إليهما لمعرفة حكم معين ، فكان لهذين الإمامين الفضل بعد الله عز
وجل في تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الحديث الصحيح بأيسر الطرق
.
وقد
تابعهما في التأليف على أبواب الفقه أئمة كثيرون سواء ممن عاصرهم أو ممن
تأخر عنهم ، فألفت بعدهما السنن الأربعة المشهورة وهي سنن أبي داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه ، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يلتزموا الصحة كما التزمها الإمامان البخاري ومسلم ، فوُجد في هذه المؤلفات الصحيح وغيره ، وإن كان الصحيح هو الغالب .
وقد
اعتبر العلماء القرن الثالث الهجري أزهى عصور السنة وأسعدها بالجمع
والتدوين ، ففيه دونت الكتب الستة التي اعتمدتها الأمة فيما بعد ، وفيه
ظهر أئمة الحديث وجهابذته ، وفيه نشطت رحلة العلماء في طلب الحديث ، ولذلك
جعل كثير من أهل العلم هذا القرن الحدَّ الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين
من نقاد الحديث .
وبانتهاء هذا القرن كاد أن ينتهي عصر الجمع والابتكار
في التأليف ، فقد اقتصر دور العلماء في القرون التالية على الاختصار
والتهذيب والترتيب ، والاستدراك والتعقيب ، وانصب اهتمامهم على الكتب
المدونة ، وقلَّت بينهم الرواية الشفهية .
ومن
خلال ما سبق يتبين لنا أن تدوين الحديث النبوي قد مر بمراحل منتظمة ،
وأطوار متلاحقة ، حققت حفظه ، وصانته من العبث والضياع ، وكان لجمع الحديث
وتدوينه أعظم الأثر في تسهيل الطريق للاجتهاد والاستنباط ، وبهذا نعلم
مقدار الجهد العظيم الذي بذله الأئمة في جمع السنة وتبويبها ، حيث تركوا
لنا تراثاً عظيماً في عشرات المصنفات والدواوين ، حتى أصبحت هذه الأمة
تمتلك أغنى تراث عرفته البشرية ، فجزى الله أئمة الإسلام عنَّا خير الجزاء
.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin