المبحث الأول: التعريف بالعصر الذي عاش فيه.وفيه
ثلاثة مطالب:ـ
المطلب الأول: الحالة السياسية:
نشأ
الإمام الذهبي (673هـ - 748هـ) في عصر كثرت فيه الأحداث والصراعات الفكرية
والسياسية، وتميزت تلك المرحلة بالعديد من السلبيات. منها على سبيل الإيجاز ما
يلي:-
أولا: الحروب الصليبية (490هـ
- 690هـ) .
بدأت
الحروب الصليبية في أواخر القرن الخامس الهجري، ودامت قرنين من الزمان، أنهكت جميع
قوى الإسلام السياسية، وصيرت البلاد الإسلامية ممالك صغيرة تحت أمراء ضعفاء حتى
استعان بعضهم بأعداء الإسلام من الصليبيين والتتار، ناهيك عن الخيانات التي قام
بها الفاطميون بانحيازهم للصليبيين.[1]
ثانيا: سقوط الخلافة العباسية على يد
التتار عام 656هـ .
لقد
تم إنهاء الخلافة وسقطت بغداد على يد هولاكو خان بالتآمر مع ابن العلقمي الرافضي
الذي خان المعتصم بالله وطمع التتار في الاستيلاء على العراق انتقاما من أهل السنة
والجماعة، وقُتل ببغداد يومئذ أكثر من ألف ألف، حتى جرت السيول من الدماء.[2]
ثم تشوف هولاكو إلى الشام ومصر، وتمت
سيطرته عليها ثم على حلب ودمشق، وملك العراقين وخراسان. حينئذ دخل العالم الإسلامي
في حالة من الفوضى التي يرثى لها.[3]
المطلب
الثاني: الحالة الاجتماعية .
لا
شك أن الحوادث التي تقدم ذكرها قد تركت آثارا ظاهرة على حياة الأمة الإسلامية،
وخلف دخول التتار على البلاد الإسلامية من التقاليد والعادات ما جعل من المجتمع
الإسلامي مجتمعا منحلا انتشرت فيه المعاصي والمنكرات من البغاء والرشوة والحيل في
المعاملات وغيرها.
وقد
دفع ذلك بالعلماء العاملين والدعاة المخلصين إلى القيام بدور بارز في محاربة تلك
الظواهر الاجتماعية الفاسدة عن طريق الوعظ والتدريس والتأليف وسائر وسائل الاصلاح
الاجتماعي. ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ الإمام شمس الدين الذهبي ورفقاؤه شيخ
الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) وأبو الحجاج المزي (ت742هـ) وعلم الدين البرزالي
(ت739هـ) وغيرهم من علماء ذلك العصر مثل النووي والعز ابن عبد السلام وابن دقيق
العيد وعدد لا يحصى من العلماء كثرة.
المطلب
الثالث: الحالة العلمية والفكرية .
كانت دمشق في نهاية القرن السابع الهجري
ومطلع القرن الثامن قد أصبحت مركزا كبيرا من مراكز الحياة الفكرية، فيها من
المدارس العامرة ودور الحديث والقرآن العدد الكثير. وكانت العناية بالعلوم الشرعية
من التفسير والحديث والفقه والأصول هي السمة البارزة لهذا العصر. وظهرت فيه
الموسوعات العلمية مثل بداية المجتهد لابن رشد (ت 595هـ) وتفسير الفخر الرازي (ت
606هـ) والمغني لابن قدامة المقدسي (ت 611هـ) والكامل في التاريخ لابن الأثير (ت
630هـ) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (630هـ) والمجموع للنووي (ت 677هـ) ومؤلفات
ابن تيمية وتلاميذه ومعاصريه وهي كثيرة جدا.
وشهدت دمشق كذلك في هذا العصر نزاعا
مذهبيا وعقائديا حادا. وكان الحكام المماليك يتدخلون فيه في كثير من الأحيان،
فيناصرون فئة على أخرى.[4] وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عملوا على نشر المذهب
الشافعي وعقيدة أبي الحسن الأشعري، حتى قال المقريزي: "وقد أخذ بها – يعني الأشعرية – جماهير أهل الأمصار الإسلامية، ومن
خالف هذه العقيدة أريق دمه".[5] وكان النزاع بين الأشاعرة وبين الحنابلة نزاعا
مضطرما، زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة التوحيد واعتماد الأشاعرة على
البرهان العقلي والأدلة المنطقية.
وإلى جانب ذلك كان الجهل والاعتقاد
بالخرافات سائدا بين عوام المسلمين. وكان التصوف منتشرا في أرجاء البلاد انتشارا
عظيما. وظهر بينهم كثير من المشعوذين الذين وجدوا اهتماما وتأييدا من قبل الحكام.
وانتشر تقديس الأشياخ والاعتقاد فيهم، وطلب النذور عند قبورهم، بل كانوا يسجدون
لبعض تلك القبور ويطلبون المغفرة من أصحابها.[6] والتف غالبية الرعاع من الناس حول المتصوفة مثل
أحمد البدوي (ت 675هـ) وإبراهيم الدسوقي (ت 676هـ) وغيرهما للتبرك بهم والاهتداء
بسيرهم.
وعلى النقيض من ذلك كان الحنابلة يرفعون
لواء الإصلاح والتجديد وقمع البدع والخرافات، والعودة إلى نهج السلف والتمسك
بهديهم. وعلى رأسهم الإمام الذهبي ورفاقه الذين سبق ذكرهم.
في ذلك الجو السياسي والعلمي والفكري نشأ
وترعرع الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي.
المبحث الثاني: حياته
الشخصية والعلمية. وفيه سبعة مطالب:ـ
المطلب
الأول: اسمه ومولده ونشأته .
هو
الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي.
ولد
في ربيع الآخر سنة 673هـ بكفربطنا من غوطة دمشق، واهتم بدراسة القرآن بالقراآت
العشرة وأتقنها قبل أن يبلغ العشرين من عمره. وعني بالحديث عناية فائقة، فسمع من
جم غفير من المحدثين، ورحل داخل البلاد الشامية وخارجها، فسمع الحديث بدمشق،
وبعلبك، وحمص، وحماه، وحلب، وطرابلس، ونابلس، والرملة، وبلبيس، والقاهرة،
والإسكندرية، والقدس. وحج سنة 698هـ فسمع من علماء الحجاز وغيرها.
واحتوى
معجم شيوخه على ألف وثلاثمائة شيخ.[7] واتصل الذهبي اتصالا وثيقا بثلاثة من شيوخ ذلك
العصر, وهم: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (654هـ - 742هـ)،
وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحراني (661هـ -
728هـ)، وعلم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي (665هـ - 739هـ)، وأحبهم
وترافق معهم طيلة حياته، وتأثر بهم تأثرا عظيما، لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية
الذي قال عنه الذهبي: "وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حُلّفتُ بين
الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله رأى هو مثل نفسه في
العلم"[8]. وقد خالفه الذهبي مع
ذلك في مسائل، وانتقده في بعض آرائه حتى أرسل إليه نصيحة مكتوبة في بعض ذلك.[9]
وقال
عنه في تذكرة الحفاظ: "وقد انفرد بفتاوى نِيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في
بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ
من قوله ويترك، فكان ماذا؟"[10].
المطلب الثاني: شمائله وأخلاقه .
قال
تلميذه تقي الدين ابن رافع السلامي(ت774هـ):
"كان
خيّرا، صالحا، متواضعا، حسن الخلق، حلو المحاضرة. غالب أوقاته في الجمع والاختصار
والاشتغال بالعبادة. له ورد بالليل، وعنده مروءة وعصبية وكرم".
وقال
الزركشي (ت794هـ):
"..
مع ما كان عليه من الزهد التام، والإيثار العام، والسبق إلى الخيرات، والرغبة بما
هو آت".
المطلب الثالث: منزلته العلمية .
اتفق
علماء عصره على الاعتراف بفضله وبراعته وعلو منزلته في العلم إلى درجة أن الإمام
الحافظ ابن حجر شرب ماء زمزم سائلا الله عز وجل أن يبلغه مرتبة الذهبي في الحفظ،
وأن يبلغ فطنته.[11]
قال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ: "والذي أقوله: إن
المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي،
والعراقي، وابن حجر".
وتاج
الدين السبكي مع مخالفته للذهبي في عدد من المسائل ورده عليه إلا أنه لزم فيه
الإنصاف حيث قال: "اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص:
الذهبي والمزي والبرزالي والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم.."[12]
وقال
الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلا عن البدر النابلسي في مشيخته: "كان علامة
زمانه في الرجال وأحوالهم، حديد الفهم، ثاقب الذهن، وشهرته تغني عن الإطناب
فيه"[13].
المطلب الرابع: مناصبه
التدريسية.
تولى
الحافظ الذهبي منذ سنة 703هـ الخطابة بمسجد كفر بطنا، وهي قرية بغوطة دمشق، وظل
مقيما بها إلى سنة 718هـ. وفي هذه السنة وُلي مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح،
وكانت من كبريات دور الحديث بدمشق آنذاك، وقد اتخذ من هذه المدرسة سكنا له إلى أن
توفاه الله.
وتولى
كذلك مشيخة الحديث بكبريات دور الحديث الدمشقية كدار الحديث العدوية، ، ودار
الحديث الفاضلية، ودار الحديث الظاهرية، ودار الحديث التنكزية، ودار الحديث
النفيسية التي تولى التدريس والإمامة بها بعد وفاة رفيقه علم الدين البرزالي عام
739هـ.
المطلب الخامس: آثاره العلمية .
خلّف
الإمام الذهبي كمًّا هائلا من الآثار العلمية، حتى قال الحافظ ابن حجر إنه أكثر
أهل عصره تصنيفا[14].
وقال
عن مؤلفاته:"ورغب الناس في تواليفه، ورحلوا إليه بسببها، وتداولوها قراءة
ونسخا وسماعا"[15].
وقال
الحسيني:"وقد سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان"[16].
وقد
عدّد مصنفاته الدكتور بشار عواد، ورتبها على حسب العلوم، فبلغت (215) مائتين وخمسة
عشر مصنفا منها المختصرات والمنتقيات ومعجمات الشيوخ والمشيخات والأجزاء.[17]
المطلب
السادس: عقيدته ومنهجه .
عُرف
الحافظ شمس الدين الذهبي بتعظيمه للأثر، واتباعه للسلف الصالح، وتقديمه للسنن على
آراء الرجال. وقد اشتهر عنه قوله:
العلم قـال الله قـال
رسـوله * إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة
* بين الرسـول وبين رأي فقيه
فكان رحمه الله تعالى شديد التمسك بالسنة، كثير التحسر على
انتشار البدع. وقد قال في ترجمة الحكيم الترمذي:
تُكُلم في السُّلَمي من أجل تأليفه كتاب"حقائق
التفسير"، فيا ليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاّجية، والشطحات
البسطامية، وتصوف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى:﴿وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..﴾ [الأنعام:153].[18]
وقال في ترجمة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري:
.. وما أحلى تصوف الصحابة والتابعين ! ما خاضوا في هذه
الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلوا له وتوكلوا عليه، وهم من خشيته مشفقون،
ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم.[19]
وقد انتُقد الذهبي من أجل ذلك من
قبل بعض معاصريه من متعصبة الحنفية والشافعية، ومن بعض غلاة أهل التصوف، وليس ذلك
بضاره شيئا إن شاء الله، فإنه ما سلم من الانتقاد أحد من الفضلاء تقريبا، وهذه
سيرهم شاهدة على ذلك. ويكفي المرءَ لدينه أن يسعى في إرضاء ربه، ويبذل جهده في
اتباع الحق. وقديما قالوا "رضى الناس غاية لا تدرك".
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما * ولو غاب عنهم بين حافيتي نسر
ويحسن أن نعامل الذهبي بما عامل به هو غيره من الناس، فقد
حكى قول من ترك الأخذ عن العالم الجليل أحد قادة الصوفية الفضيل بن عياض رحمه
الله، فكان من جملة تعليقاته على ذلك قوله:
إذا كان مثل كبراء السابقين الأولين قد تَكلم فيهم الروافض
والخوارج، ومثل الفضيل يُتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت
إمامة الرجل وفضله لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن
بالعدل والورع[20].
ثلاثة مطالب:ـ
المطلب الأول: الحالة السياسية:
نشأ
الإمام الذهبي (673هـ - 748هـ) في عصر كثرت فيه الأحداث والصراعات الفكرية
والسياسية، وتميزت تلك المرحلة بالعديد من السلبيات. منها على سبيل الإيجاز ما
يلي:-
أولا: الحروب الصليبية (490هـ
- 690هـ) .
بدأت
الحروب الصليبية في أواخر القرن الخامس الهجري، ودامت قرنين من الزمان، أنهكت جميع
قوى الإسلام السياسية، وصيرت البلاد الإسلامية ممالك صغيرة تحت أمراء ضعفاء حتى
استعان بعضهم بأعداء الإسلام من الصليبيين والتتار، ناهيك عن الخيانات التي قام
بها الفاطميون بانحيازهم للصليبيين.[1]
ثانيا: سقوط الخلافة العباسية على يد
التتار عام 656هـ .
لقد
تم إنهاء الخلافة وسقطت بغداد على يد هولاكو خان بالتآمر مع ابن العلقمي الرافضي
الذي خان المعتصم بالله وطمع التتار في الاستيلاء على العراق انتقاما من أهل السنة
والجماعة، وقُتل ببغداد يومئذ أكثر من ألف ألف، حتى جرت السيول من الدماء.[2]
ثم تشوف هولاكو إلى الشام ومصر، وتمت
سيطرته عليها ثم على حلب ودمشق، وملك العراقين وخراسان. حينئذ دخل العالم الإسلامي
في حالة من الفوضى التي يرثى لها.[3]
المطلب
الثاني: الحالة الاجتماعية .
لا
شك أن الحوادث التي تقدم ذكرها قد تركت آثارا ظاهرة على حياة الأمة الإسلامية،
وخلف دخول التتار على البلاد الإسلامية من التقاليد والعادات ما جعل من المجتمع
الإسلامي مجتمعا منحلا انتشرت فيه المعاصي والمنكرات من البغاء والرشوة والحيل في
المعاملات وغيرها.
وقد
دفع ذلك بالعلماء العاملين والدعاة المخلصين إلى القيام بدور بارز في محاربة تلك
الظواهر الاجتماعية الفاسدة عن طريق الوعظ والتدريس والتأليف وسائر وسائل الاصلاح
الاجتماعي. ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ الإمام شمس الدين الذهبي ورفقاؤه شيخ
الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) وأبو الحجاج المزي (ت742هـ) وعلم الدين البرزالي
(ت739هـ) وغيرهم من علماء ذلك العصر مثل النووي والعز ابن عبد السلام وابن دقيق
العيد وعدد لا يحصى من العلماء كثرة.
المطلب
الثالث: الحالة العلمية والفكرية .
كانت دمشق في نهاية القرن السابع الهجري
ومطلع القرن الثامن قد أصبحت مركزا كبيرا من مراكز الحياة الفكرية، فيها من
المدارس العامرة ودور الحديث والقرآن العدد الكثير. وكانت العناية بالعلوم الشرعية
من التفسير والحديث والفقه والأصول هي السمة البارزة لهذا العصر. وظهرت فيه
الموسوعات العلمية مثل بداية المجتهد لابن رشد (ت 595هـ) وتفسير الفخر الرازي (ت
606هـ) والمغني لابن قدامة المقدسي (ت 611هـ) والكامل في التاريخ لابن الأثير (ت
630هـ) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (630هـ) والمجموع للنووي (ت 677هـ) ومؤلفات
ابن تيمية وتلاميذه ومعاصريه وهي كثيرة جدا.
وشهدت دمشق كذلك في هذا العصر نزاعا
مذهبيا وعقائديا حادا. وكان الحكام المماليك يتدخلون فيه في كثير من الأحيان،
فيناصرون فئة على أخرى.[4] وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عملوا على نشر المذهب
الشافعي وعقيدة أبي الحسن الأشعري، حتى قال المقريزي: "وقد أخذ بها – يعني الأشعرية – جماهير أهل الأمصار الإسلامية، ومن
خالف هذه العقيدة أريق دمه".[5] وكان النزاع بين الأشاعرة وبين الحنابلة نزاعا
مضطرما، زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة التوحيد واعتماد الأشاعرة على
البرهان العقلي والأدلة المنطقية.
وإلى جانب ذلك كان الجهل والاعتقاد
بالخرافات سائدا بين عوام المسلمين. وكان التصوف منتشرا في أرجاء البلاد انتشارا
عظيما. وظهر بينهم كثير من المشعوذين الذين وجدوا اهتماما وتأييدا من قبل الحكام.
وانتشر تقديس الأشياخ والاعتقاد فيهم، وطلب النذور عند قبورهم، بل كانوا يسجدون
لبعض تلك القبور ويطلبون المغفرة من أصحابها.[6] والتف غالبية الرعاع من الناس حول المتصوفة مثل
أحمد البدوي (ت 675هـ) وإبراهيم الدسوقي (ت 676هـ) وغيرهما للتبرك بهم والاهتداء
بسيرهم.
وعلى النقيض من ذلك كان الحنابلة يرفعون
لواء الإصلاح والتجديد وقمع البدع والخرافات، والعودة إلى نهج السلف والتمسك
بهديهم. وعلى رأسهم الإمام الذهبي ورفاقه الذين سبق ذكرهم.
في ذلك الجو السياسي والعلمي والفكري نشأ
وترعرع الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي.
المبحث الثاني: حياته
الشخصية والعلمية. وفيه سبعة مطالب:ـ
المطلب
الأول: اسمه ومولده ونشأته .
هو
الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي.
ولد
في ربيع الآخر سنة 673هـ بكفربطنا من غوطة دمشق، واهتم بدراسة القرآن بالقراآت
العشرة وأتقنها قبل أن يبلغ العشرين من عمره. وعني بالحديث عناية فائقة، فسمع من
جم غفير من المحدثين، ورحل داخل البلاد الشامية وخارجها، فسمع الحديث بدمشق،
وبعلبك، وحمص، وحماه، وحلب، وطرابلس، ونابلس، والرملة، وبلبيس، والقاهرة،
والإسكندرية، والقدس. وحج سنة 698هـ فسمع من علماء الحجاز وغيرها.
واحتوى
معجم شيوخه على ألف وثلاثمائة شيخ.[7] واتصل الذهبي اتصالا وثيقا بثلاثة من شيوخ ذلك
العصر, وهم: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (654هـ - 742هـ)،
وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحراني (661هـ -
728هـ)، وعلم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي (665هـ - 739هـ)، وأحبهم
وترافق معهم طيلة حياته، وتأثر بهم تأثرا عظيما، لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية
الذي قال عنه الذهبي: "وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حُلّفتُ بين
الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله رأى هو مثل نفسه في
العلم"[8]. وقد خالفه الذهبي مع
ذلك في مسائل، وانتقده في بعض آرائه حتى أرسل إليه نصيحة مكتوبة في بعض ذلك.[9]
وقال
عنه في تذكرة الحفاظ: "وقد انفرد بفتاوى نِيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في
بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ
من قوله ويترك، فكان ماذا؟"[10].
المطلب الثاني: شمائله وأخلاقه .
قال
تلميذه تقي الدين ابن رافع السلامي(ت774هـ):
"كان
خيّرا، صالحا، متواضعا، حسن الخلق، حلو المحاضرة. غالب أوقاته في الجمع والاختصار
والاشتغال بالعبادة. له ورد بالليل، وعنده مروءة وعصبية وكرم".
وقال
الزركشي (ت794هـ):
"..
مع ما كان عليه من الزهد التام، والإيثار العام، والسبق إلى الخيرات، والرغبة بما
هو آت".
المطلب الثالث: منزلته العلمية .
اتفق
علماء عصره على الاعتراف بفضله وبراعته وعلو منزلته في العلم إلى درجة أن الإمام
الحافظ ابن حجر شرب ماء زمزم سائلا الله عز وجل أن يبلغه مرتبة الذهبي في الحفظ،
وأن يبلغ فطنته.[11]
قال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ: "والذي أقوله: إن
المحدثين عيال الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المزي، والذهبي،
والعراقي، وابن حجر".
وتاج
الدين السبكي مع مخالفته للذهبي في عدد من المسائل ورده عليه إلا أنه لزم فيه
الإنصاف حيث قال: "اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص:
الذهبي والمزي والبرزالي والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم.."[12]
وقال
الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلا عن البدر النابلسي في مشيخته: "كان علامة
زمانه في الرجال وأحوالهم، حديد الفهم، ثاقب الذهن، وشهرته تغني عن الإطناب
فيه"[13].
المطلب الرابع: مناصبه
التدريسية.
تولى
الحافظ الذهبي منذ سنة 703هـ الخطابة بمسجد كفر بطنا، وهي قرية بغوطة دمشق، وظل
مقيما بها إلى سنة 718هـ. وفي هذه السنة وُلي مشيخة دار الحديث بتربة أم الصالح،
وكانت من كبريات دور الحديث بدمشق آنذاك، وقد اتخذ من هذه المدرسة سكنا له إلى أن
توفاه الله.
وتولى
كذلك مشيخة الحديث بكبريات دور الحديث الدمشقية كدار الحديث العدوية، ، ودار
الحديث الفاضلية، ودار الحديث الظاهرية، ودار الحديث التنكزية، ودار الحديث
النفيسية التي تولى التدريس والإمامة بها بعد وفاة رفيقه علم الدين البرزالي عام
739هـ.
المطلب الخامس: آثاره العلمية .
خلّف
الإمام الذهبي كمًّا هائلا من الآثار العلمية، حتى قال الحافظ ابن حجر إنه أكثر
أهل عصره تصنيفا[14].
وقال
عن مؤلفاته:"ورغب الناس في تواليفه، ورحلوا إليه بسببها، وتداولوها قراءة
ونسخا وسماعا"[15].
وقال
الحسيني:"وقد سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان"[16].
وقد
عدّد مصنفاته الدكتور بشار عواد، ورتبها على حسب العلوم، فبلغت (215) مائتين وخمسة
عشر مصنفا منها المختصرات والمنتقيات ومعجمات الشيوخ والمشيخات والأجزاء.[17]
المطلب
السادس: عقيدته ومنهجه .
عُرف
الحافظ شمس الدين الذهبي بتعظيمه للأثر، واتباعه للسلف الصالح، وتقديمه للسنن على
آراء الرجال. وقد اشتهر عنه قوله:
العلم قـال الله قـال
رسـوله * إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة
* بين الرسـول وبين رأي فقيه
فكان رحمه الله تعالى شديد التمسك بالسنة، كثير التحسر على
انتشار البدع. وقد قال في ترجمة الحكيم الترمذي:
تُكُلم في السُّلَمي من أجل تأليفه كتاب"حقائق
التفسير"، فيا ليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاّجية، والشطحات
البسطامية، وتصوف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى:﴿وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..﴾ [الأنعام:153].[18]
وقال في ترجمة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري:
.. وما أحلى تصوف الصحابة والتابعين ! ما خاضوا في هذه
الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلوا له وتوكلوا عليه، وهم من خشيته مشفقون،
ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم.[19]
وقد انتُقد الذهبي من أجل ذلك من
قبل بعض معاصريه من متعصبة الحنفية والشافعية، ومن بعض غلاة أهل التصوف، وليس ذلك
بضاره شيئا إن شاء الله، فإنه ما سلم من الانتقاد أحد من الفضلاء تقريبا، وهذه
سيرهم شاهدة على ذلك. ويكفي المرءَ لدينه أن يسعى في إرضاء ربه، ويبذل جهده في
اتباع الحق. وقديما قالوا "رضى الناس غاية لا تدرك".
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما * ولو غاب عنهم بين حافيتي نسر
ويحسن أن نعامل الذهبي بما عامل به هو غيره من الناس، فقد
حكى قول من ترك الأخذ عن العالم الجليل أحد قادة الصوفية الفضيل بن عياض رحمه
الله، فكان من جملة تعليقاته على ذلك قوله:
إذا كان مثل كبراء السابقين الأولين قد تَكلم فيهم الروافض
والخوارج، ومثل الفضيل يُتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت
إمامة الرجل وفضله لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن
بالعدل والورع[20].
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin